تبحث المعارضة التركية عن كبش فداء تحمّله مسؤولية خسارة الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة في مواجهة رجب طيب إردوغان وتحالف الجمهور. عثرت على “العجوز” كمال كيليشدار أوغلو الواجب تنحيته وإرساله إلى منزل التقاعد لتكون لها فرصة تجاوز ما تعيشه اليوم. فهل يكفيها ذلك؟
بالمقابل يحاول كيليشدار أوغلو زعيم حزب “الشعب الجمهوري” التركي المعارض الحؤول دون انتقال الخلافات الحزبية الداخلية إلى الخارج، ومنع نشر الغسيل الوسخ أمام الرأي العامّ لكن من دون نتيجة. فالجناح المعارض داخل الحزب الذي يقوده ويحرّكه اليوم رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو لم يُبقِ سرّاً إلا وكشف النقاب عنه بعد الهزيمة التي حلّت بالحزب في الانتخابات البرلمانية والرئاسية قبل شهرين.
ترى قيادات المعارضة التركية أنّها نجحت في تجاوز ارتدادات هزيمة أيار المنصرم الكاسحة. وهي تحاول من خلال عمليات تلميع وتجميل مؤقّتة مواصلة طريقها حتى موعد الانتخابات المحلّية المقبلة بعد 8 أشهر. الجميع هناك يريد أن يرمي الكرة في ملعب كيليشدار أوغلو الذي قاد تحالف الأمّة وأوصله إلى طريق مسدود. هو أيضاً يريد الخروج من الورطة بأقلّ الخسائر عبر تغييرات حزبية يعتقد أنّها ستنقذه ممّا هو فيه.
تبحث المعارضة التركية عن كبش فداء تحمّله مسؤولية خسارة الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة في مواجهة رجب طيب إردوغان وتحالف الجمهور
ما يزيد الطين بلّة هو تسديدات تحت الحزام يوجّهها زعيم حزب “ظفر” القومي اليميني المتشدّد وحليف المعارضة في الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية، إذ يكشف عن اتفاقيات سرّية عقدها مع كيليشدار أوغلو من دون علم بقيّة قوى المعارضة قبل 3 أشهر. لكنّه في الوقت نفسه يتّهم حزب أكشينار بعدم دعم كيليشدار أوغلو في الجولة الثانية من معركة الرئاسة مشعلاً الحرب بين الحزبين.
بدلاً من الحديث عن مشاكل المواطن وأرقام التضخّم والغلاء والبطالة وتراجع سعر صرف الليرة أمام الدولار، نحن نتحدّث عن المعارضة التركية والعقل المدبّر فيها حزب الشعب وزعيمه كيليشدار أوغلو ورفضهم أن يدفعوا ثمن الهزيمة أمام رجب طيب إردوغان وحزب العدالة والتنمية و”تحالف الجمهور” في الحكم.
كافكاوية السياسة… والمعارضة
أحلى ما في السياسة أن تكون كلّ الصلاحيّات والقرارات بيدك وحدك، وأن لا تتحمّل أيّة مسؤولية ولا تتعرّض لأيّة مساءلة عند الخسارة. ذروة “الكافكاويّة” هي الحالة التي نعيشها اليوم مع أحزاب المعارضة التركية وقياداتها بعد هزيمة أيار المنصرم. ملخّص رسالة كيليشدار أوغلو وشركاه في المعارضة التركية هي رسالة الألماني كافكا ذاتها: “.. أحاول باستمرار التواصل مع شيء لا يمكن إشراك الغير فيه، لشرح شيء لا يمكن تفسيره، ولأتحدّث عن شيء أشعر به أنا وحدي في عظامي ولا يمكن لأحد آخر أن يحسّ به..”. رؤية كيليشدار أوغلو هي باختصار: من بعدي الطوفان في الحزب وفي صفوف المعارضة وتكتّل “تحالف الأمّة”، والناخب التركي الذي راهن على احتمال هزيمة إردوغان و”تحالف الجمهور”.
همّ الناخب والمواطن هو الاقتصاد والوضع المعيشي، وهمّ المعارضة وقياداتها هو الاحتفاظ بالمقاعد والبقاء على رأس الأحزاب في الطريق إلى الانتخابات المحلّية المرتقبة بعد أشهر. تدعو رئيسة المصرف المركزي التركي الجديدة غايا أركان المواطن إلى الصبر لعام كامل قبل الحديث عن تحسّن في الأوضاع الماليّة والمعيشية، بينما تتلهّى المعارضة بخلافاتها الداخلية بعيداً عن اهتمامات المواطن وأولوياته بدل استغلال الفرصة.
كان المتوقّع ليلة 28 أيار المنصرم ظهور كيليشدار أوغلو أمام مناصريه وإعلانه قبول الهزيمة في مواجهة إردوغان، والانسحاب من المشهد السياسي مفسحاً المجال أمام قيادات حزبية جديدة. لكن بدل أن يفعل ذلك اختار التصعيد والتشدّد وتحدّي الأصوات الحزبية التي تدعوه إلى التنحّي. كيليشدار أوغلو يجد صعوبة في البقاء على رأس حزبه، ويرفض الذهاب إلى مؤتمر استثنائي عاجل. فكيف سينجح في إقناع تكتّل المعارضة بأن يعطيه ما يريد ويبقيه على رأس تحالف الأمّة؟
لم تستفِق قوى المعارضة التركية من صدمتها ولم تغادر غرفة العناية الفائقة بعد، على الرغم من مرور شهرين على الانتخابات. يستعدّ إردوغان وحزب العدالة للانتخابات البلديّة المرتقبة في أواخر آذار المقبل، بينما تحاول المعارضة وقياداتها تصفية الحسابات في ما يتّصل بنتائج الهزيمة الأخيرة وتخوض نقاشات التغيير والتجديد داخل صفوفها.
تلتقي كلّ استطلاعات الرأي الحالية في تركيا عند سيناريو استحالة فوز قوى المعارضة في البلديات حتى لو توحّدت من جديد في معركة انتخابات الكثير من المدن التركية الكبرى باستثناء إزمير
تلميع صورة أكرم أوغلو
هناك إصرار في صفوف حزب الشعب على تلميع صورة أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول وشريك كمال كيليشدار أوغلو في الهزيمة، ودفعه إلى الساحة لمواجهة رئيسه في معركة قيادة الحزب في المرحلة المقبلة. كلاهما يريد تجاهل أرقام استطلاعات الرأي وما تقوله عن خيبة الأمل في صفوف الناخب الإسطنبوليّ الذي دعمه ووقف بجانبه لأربع سنوات كاملة. بدوره يعلن إمام أوغلو تمسّكه بأسس ومبادىء الأتاتوركيّة والعلمانية في تركيا، وأنّه يدعم التغيير في حزب الشعب، وجاهز للقيادة في حال طُلب منه ذلك. لكنّه لا يقول كيف ومع من سيفعل ذلك بعد الضربات المتلاحقة التي وُجّهت إلى الحزب من داخله وخارجه.
تلتقي كلّ استطلاعات الرأي الحالية في تركيا عند سيناريو استحالة فوز قوى المعارضة في البلديات حتى لو توحّدت من جديد في معركة انتخابات الكثير من المدن التركية الكبرى باستثناء إزمير. فتفكّكها ومغادرة حزب “إيي” الذي تقوده ميرال أكشينار للتحالف يعنيان خسارة فادحة وضربة قوية في المدن التركية. بعض مدن جنوب شرق تركيا قد تبقى بيد حزب الشعوب الديمقراطية المدعوم من قبل الصوت الكردي هناك.
شراكة المعارضة في صنع الطاولة السداسية ثمّ التحالف من وراء الستار مع حزب الشعوب الديمقراطية، وبعدها محاولة كسب أصوات اليميني المتشدّد أوميت أوزداغ زعيم حزب “ظفر”، تتركها أمام مسؤولية دفع ثمن خلطة سياسية حزبية عجيبة من هذا النوع.
يدعو “تحالف الجمهور” الذي يمثّل الجناح المنتصر في الانتخابات التركية الأخيرة أنصاره إلى استعدادات مبكرة من أجل معركة انتخابات البلديات في آذار المقبل، بينما يعاني “تحالف الأمّة” المعارض من حالة تفكّك وشرذمة ورغبة في عدم مغادرة ورطة ارتدادات الهزيمة. يتعنّت كيليشدار أوغلو فيرفض الانسحاب معتبراً أنّ من يريد التغيير والتجديد سيكون عليه انتظار انعقاد المؤتمر العامّ للحزب في تشرين الأول المقبل، وأنّ الباب مشرّع أمام من يرغب في ترشيح نفسه لرئاسة الحزب. فهل ينتظر الجناح الحزبي المعارض الذي تتزايد قوّته ويرتفع صوته أكثر فأكثر حتى ذلك التاريخ؟
تأسيس حزب أتاتوركي جديد
الخيار الكلاسيكي الباقي أمام الجناح التصحيحيّ في الحزب هو إمّا دفع كيليشدار أوغلو نحو تبديل موقفه وتقريب موعد المؤتمر العامّ للحزب، أو الذهاب وراء مغامرة الانشقاقات الحزبية بقيادة رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو الذي نشر مقالاً يقول فيه: “التغيير هو الحلّ، ومن أجل ذلك نحتاج إلى مقاربات ولغة وكوادر جديدة. باختصار، نحتاج إلى تكتّل جديد وسياسة جديدة”. الورقة التي يلوّح بها في وجه كيليشدار أوغلو لإقناعه بالاستسلام هي تأسيس حزب يساري علماني أتاتوركي بديل، وهو ما ليس بجديد على حزب الشعب الجمهوري في تاريخه السياسي.
أسعد الناس اليوم هو إردوغان الذي يتابع عن قرب ما يدور في صفوف أحزاب المعارضة وقياداتها. وعد كيليشدار أوغلو بإزاحته إلى التقاعد من خلال عبارة “باي باي كمال” التي ردّدها أكثر من مرّة. لكن في داخله يتمنّى أن يبقى الأخير في مكانه ليلعب ورقته سياسياً وحزبياً في الحملات الانتخابية التي يستعدّ لها بعد أشهر. الأضعف بينهم اليوم هو كيليشدار أوغلو، فلماذا لا يريده مرّة أخرى في مواجهته لينتزع منه بلدية إسطنبول وأنقرة وربّما قلعته الأهمّ إزمير أيضاً؟!
إقرأ أيضاً: تركيا – أوروبا: المنعطف الأخير؟
تروي الأسطورة أنّ طائر الفينيق أو الفينكس أو العنقاء مصيره أن يموت في النار ثمّ يخرج من رماده مخلوق جديد. تحلم المعارضة التركيّة بمثل هذه الفرصة التي قد يطول انتظارها. فهي أخمدت آخر أحلام داعميها بانطلاقة جديدة، بعدما أدارت ظهرها للناخب التركي ورفضت تلقّي رسائله في أيار المنصرم. فكيف ولماذا يواصل دعمها بعدما خيّبت آماله قبل شهرين فيما هي اليوم أمام منظر كارثي لا يحمل أيّ بارقة أمل؟
في السياسة كلّ شيء ممكن. آخر السيناريوهات المطروحة هو مغادرة ميرال أكشينار وحزبها سفينة تحالف الأمّة المعارض المهدّدة بالغرق، والالتحاق بتحالف الجمهور الذي يقوده إردوغان لإنقاذ ما بقي.