تركيا – أوروبا: المنعطف الأخير؟

مدة القراءة 8 د


تفعّل القيادات السياسية الأوروبية رسائل الغزل نحو أنقرة كلّما احتاجت إلى الدعم التركي في ملفّ إقليمي يرتبط بمصالحها الاستراتيجية. هذا ما فعلته في عام 2015 عند انفجار أزمة اللجوء باتجاه السواحل اليونانية، ومنها إلى العمق الأوروبي. وهذا ما حدث مع جهود الوساطة التركية في ملفّ الحبوب الأوكرانية ونقلها إلى الغرب. وهذا ما يتكرّر اليوم في موضوع التوسعة الأطلسية وهدف ضمّ فنلندا والسويد إلى الحلف والرغبة بتجاوز البطاقة الصفراء التركيّة. هل تعطي المجموعة الأوروبية بالمقابل الأتراك ما يريدونه وينتظرونه منذ عقود: العضوية الدائمة في الاتّحاد الأوروبي مثلاً؟

إردوغان يحرّك الرماد
حرّك الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الرماد قبل أسابيع عندما لوّح بورقة مقايضة استراتيجية مع الغرب: “نفتح الطريق أمام عضوية السويد في الناتو، فتفتحون الطريق أمام عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي”. بعد ساعات فقط ظهر إلى العلن الاتفاق التركي السويدي الجديد على هامش قمّة فيلنيوس الأطلسية، وأعلن إردوغان أنّ تركيا ستطرح موضوع طلب السويد الانضمام إلى الناتو على البرلمان التركي خلال دورته المقبلة في ضوء المسار الجديد من التفاهمات.
حاول الرئيس التركي عبر معادلته الأخيرة إنزال ملفّ العلاقات التركية الأوروبية المجمّد منذ سنوات عن الرفّ ورفع الغبار المتراكم عليه. لكنّ الردّ الأوروبي على لسان المستشار الألماني أولاف شولتز كان مختصراً وواضحاً أيضاً: “عضويّة السويد في الأطلسي شيء وعضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي شيء آخر”.

تركيا وأوروبا والرؤية المختلفة
يقول إردوغان إنّ الاتحاد الأوروبي سيصبح أقوى ممّا هو عليه اليوم عند قبول العضويّة التركيّة. لكنّ جوزيب بوريل مفوّض الشؤون الخارجية في الاتحاد يرى أنّ هناك خطوات لا بدّ منها ينتظرها كلّ طرف قبل تفعيل الحوار والمفاوضات من أجل العضوية التركية، ومنها ملفّ شرق المتوسط والأزمة القبرصية والعلاقات التركية اليونانية ومعايير الحرّيات وحقوق الإنسان في تركيا كما تكرّر المؤسّسات الأوروبية في تقاريرها وبياناتها.

يقول إردوغان إنّ الاتحاد الأوروبي سيصبح أقوى ممّا هو عليه اليوم عند قبول العضويّة التركيّة

لا أحد يريد التراجع خطوة إلى الوراء على الرغم من حاجة الطرفين أحدهما إلى الآخر في ملفّات ومسائل ذات طابع استراتيجي. يذكّر إردوغان بأنّ مشروع العضوية الكاملة ما يزال قائماً بالنسبة لأنقرة لأنّه بين أولويّاتها، لكنّه جاهز أيضاً لتكرار ما ردّده أكثر من مرّة: “إذا كانت أوروبا ترغب في إعادة تقويم طلب عضوية تركيا، فلتفعل ذلك بسرعة ولتخبرنا بالنتيجة وعندها سنلجأ إلى الشعب مثلما فعلت بريطانيا”. فأيّ نوع من الغزل والشدّ والجذب بين تركيا وأوروبا هو ذاك الذي لا ينتهي ولا يصل إلى نتيجة على الرغم من مرور 64 عاماً على طلب العضوية التركية؟ وما الذي يقود إردوغان إلى إعلان فتح الطريق أمام السويد في تشرين الأول المقبل ودعوة البرلمان التركي إلى التصويت على طلب عضويّتها الأطلسية؟ أم هي مقايضة وصفقة يريدها الرئيس التركي مع الغرب في مكان آخر؟
كرّرت القيادات الأوروبية أكثر من مرّة استحالة قبول طلب العضوية التركيّة في الاتحاد. بين الأسباب التي تسوقها الانقلابات العسكرية التي شهدتها تركيا، ثمّ وصول المفاوضات بعد عام 2005 إلى طريق مسدود بعد مناقشة 15 فصلاً من الفصول الـ35 المطلوب إنجازها في مسيرة انضمام أيّ دولة إلى الاتحاد الأوروبي، وفق ما نصّت عليه معاهدة ماستريخت عام 1992. وفي عام 2016 صوّت البرلمان الأوروبي على قرار تعليق مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد، وبرّره بالظروف التي عايشتها تركيا بُعيد إعلان حالة الطوارئ، إثر محاولة الانقلاب الفاشلة التي تعرّضت لها في 15 تموز من العام نفسه. في عام 2018 جدّد الاتحاد الأوروبي تمسّكه بقراراته تجميد المفاوضات تحت ذريعة الانسداد الحاصل في الحوار وعدم إحراز أيّ تقدُّم في فصول التفاوض في الملفّات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. تجاهلت أنقرة كلّ ذلك وجدّدت تمسّكها بطلب الالتحاق بالمجموعة وعدم التراجع عنه، إذ تعتبره موقفاً استراتيجياً أساسياً في تموضعها الإقليمي والدولي. فهل حان الوقت لتستيقظ القيادات التركية من الحلم الذي تعيشه وتعود إلى الواقعية والبراغماتية التي تتبنّاهما في سياساتها الخارجية وتقبل بجوائز الترضية وعروض التسوية التي يقدّمها الجانب الأوروبي بعيداً عن منحها العضويّة الكاملة؟
كُلّف وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل بإعداد تقرير عن وضع العلاقات مع تركيا يُنتظر صدوره بحلول الخريف المقبل. وبحث وزراء خارجية الدول الـ27 الأعضاء في الاتحاد قبل أسبوعين إمكانية حماية مسار علاقاتهم مع تركيا من دون العودة إلى إخراج ملفّ عضويّتها الأوروبية من الثلّاجة.
من مصلحة الطرفين التقارب والانفتاح لأنّ متطلّبات المرحلة تستدعي خطوة بهذا الاتجاه. لكنّ ذلك لن يعني إشعال الضوء الأخضر أمام العضوية التركية. لماذا يبدّل الاتحاد الأوروبي مواقفه ويُرضي أنقرة، بينما الكثير من ملفّات الخلاف والتباعد المعقّدَين والمتشابكَين قائمة، وبينها الأزمة القبرصية والتوتّر الدائم مع اليونان في إيجه وشرق المتوسط والجمود الحاصل في تنفيذ الفصول الاقتصادية والاجتماعية والقانونية المتّفق عليها في وثائق موقّعة بين الجانبين والتي لم يتحقّق أيّ اختراق فعليّ أو تقدُّم بشأنها؟

إذاً ما هو البديل المعقول الذي قد يُخرج الجانبين من المعضلة؟
تتحدّث قيادات المؤسّسات الأوروبية عن رغبة أوروبية تركية مشتركة في تفعيل الحوار بين الطرفين، لكنّ ذلك لن يعني وجود أيّ تغيير في المواقف السياسية لغالبية الدول الأعضاء حيال العضوية التركية. تتطلّع أنقرة التي تعرف ذلك إلى تحريك أوراقها في الصفقة:
– تعديل اتفاقيات الاتحاد الجمركي بين تركيا والاتحاد الأوروبي المعتمَدة منذ عام 1995، والتي تميل تماماً إلى مصلحة الدول الأوروبية، إذ تمنحها التسهيلات الجمركية والضريبية والكوتا التجارية، بينما تنتظر تركيا المعاملة بالمثل منذ عقود.
– تقديم تسهيلات أوروبية لتركيا في موضوع منح التأشيرات للمواطنين الأتراك، إذ يأخذ المواطن الأوروبي ما يريده لناحية الدخول والخروج السهل إلى الأراضي التركية، بينما تزداد مسألة منح المواطنين الأتراك التأشيرات الأوروبية صعوبة وتعقيداً.
– تعاون تجاري تركي أوروبي أوسع يساهم في دعم الاقتصاد التركي لإخراجه من أزماته التي يواجهها منذ أعوام.
العرض الذي لن تقدّم أوروبا أكثر منه والذي على تركيا التعامل معه بجدّية، هو “الشراكة بامتياز” السارية المفعول بين المجموعة الأوروبية والعديد من الدول الحليفة والشريكة، وهو ما رفضته أنقرة أكثر من مرّة وتمسّكت به غالبية الدول الأوروبية لإنهاء وضعيّة الانتظار التركي.
لم يخرج اجتماع وزراء خارجية الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي قبل أسبوعين بأيّ عرض حقيقي لأنقرة على طريق عضويّتها في المجموعة. فكيف سيكون وضعها اليوم مع 27 دولة عليها أن تعطي موافقتها عبر قرار جماعي مشترك وموحّد، بعد أوّل طلب تقدّمت به حين كان التكتّل يضمّ 6 أعضاء فقط ولم تكن اليونان وقبرص اليونانية بينهم؟

ماذا يفعل إردوغان؟
طرح إردوغان مشروع صفقة تركية غربية يعرف هو قبل غيره صعوبة تحقيقها. فلماذا يلعب الرئيس التركي ورقة خاسرة من هذا النوع يدرك استحالة إقناع شركائه بها؟ الاحتمال الأكبر هو أن يكون إردوغان لوّح بهذه الصفقة للتخلّص منها نهائياً وحتى تعطي أنقرة لنفسها الأسباب الكافية التي تدفعها إلى التراجع عن طلبها والبحث عن بدائل إقليمية ودولية جديدة محمِّلةً العواصم الغربية المسؤولية.

إقرأ أيضاً: إردوغان في الخليج: رسائل بنكهة “بيرقدار” و”توغ”

هدف إردوغان الحقيقي في معادلته الأخيرة باتجاه دول الناتو والمجموعة الأوروبية قد يكون الاستعداد للإعلان أنّ دور تركيا كجسر تواصل بين الشرق والغرب تراجع لصالح بروز تركيا الدولة الإقليمية المركزية التي على الشرق والغرب أن يقبل بها ويتعامل معها على هذا الأساس.
إغضاب أنقرة أوروبيّاً أكثر من ذلك قد يدفعها إلى استخدام أسلحتها البديلة المدفونة تحت الرماد، وهذا ما فعلته عند اللزوم عبر تحسين علاقاتها مع روسيا في الأعوام الأخيرة على مرأى ومسمع الغرب. على السويد وشركاء الحلف الأطلسي والمجموعة الأوروبية أن يستعدّوا دائماً لمفاجآت إردوغان في اللحظة الأخيرة: يذهب طلب عضوية السويد إلى البرلمان التركي بتوصية من السلطة السياسية في الحكم. يرفض البرلمان بأغلبية الأصوات منح الحكومة ما تريد، تماماً كما حدث في آذار 2003 عندما رفض البرلمان مذكّرة تمنح الحكومة صلاحيّات إرسال قوات إلى العراق أو الموافقة على استخدام الأراضي التركية لفتح جبهة من الجنوب الشرقي من أجل إسقاط نظام صدّام حسين. لا يوجد صدّام هذه المرّة، لكنّ البرلمان التركي قد يقول لا للسويد التي تستقوي بالغرب من دون أن يقدِّما ما يرضي أنقرة ويطمئنها.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: profsamirsalha@

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…