تحدّث السيّد ليخبرنا ما نعرفه؟

مدة القراءة 9 د


ليس صحيحاً على الإطلاق أنّ خطاب الأمين العام للحزب كان على هذا القدر من الخفّة الذي ذهب إليه كارهوه ولهم أسبابهم. أو ما آتاه مخاصموه مجّاناً من هذر. كما أنّه ليس صحيحاً على الإطلاق أنّه “خطاب الفصل” على ما يروّج مريدوه وتابعوه.

بين الحالين كان هناك زرابة لسان في السياسة والقتال. لكن السيّئ على لبنان واللبنانيين أنّه أسقط عنهم ضمانة دولية بحجم القرار الأممي 1701 بإعلانه أنّه افتتح جبهةً من البحر إلى أعالي مزارع شبعا وهي بامتداد 106 كلم. قد يكون خبر امتداد الجبهة بالأرقام مُفرحاً لكُثر عندنا وبيننا ينشدون الحرب إمّا إحراجاً للحزب، أو عن عاطفة لغزّة وللفلسطينيين. لكنّ من أرادوا الحرب عندنا نسوا أو تناسوا أنّ هذا البلد بحره من جبله قريب وهذه كيلومترات ضئيلة في الحروب الكبرى.

ليس صحيحاً على الإطلاق أنّ خطاب الأمين العام للحزب كان على هذا القدر من الخفّة الذي ذهب إليه كارهوه ولهم أسبابهم. أو ما آتاه مخاصموه مجّاناً من هذر. كما أنّه ليس صحيحاً على الإطلاق أنّه “خطاب الفصل” على ما يروّج مريدوه وتابعوه

جمع ما يُجمع

نجح السيد في خطابه بجمع ما لا يُجمع. كثّف عاطفة جيّاشة مع غزّة. نأى عمّا يسمّيه “دول الممانعة” حرباً قد لا تُبقي ولا تذر. دفع إلى الواجهة القوى الفعليّة في هذه الدول، وهي عملياً أذرع إيرانية بالتعريف وبالمهامّ الموكلة إليها على الضدّ من كلّ منطق سياسي. المتناقضات السياسية والعسكرية ذرّرها في عموم خطابه. صحيح أنّه فنّده في نهايته. لكن ما بدأ به ختم به أيضاً. بدأ من لبنان فإسرائيل ثمّ أميركا. بين الدول الثلاث ربطت العناصر هذه:

ـ خاطب الولايات المتحدة لوقف الحرب على غزّة قبل أن يُشفع مخاطبته بتهديد سينفّذه من لبنان إذا ما شنّت إسرائيل أيّة حرب استباقية، فيما الأعناق مشرئبّة نحو غزّة. تهديده واشنطن ليس عابراً، فقد أطلّ هو وحزبه على العالم من معركة تفجير مقرّ المارينز في بيروت. بطاقة تعريفه آنذاك أعلنها أمس للمرّة الأولى بقوله “من هزموكم في ذلك الزمن ما يزالون أحياء ومعهم أولادهم وأحفادهم”. التبنّي للعملية هو الأوّل بفرادته.

– فتح الجبهة الشمالية هدفه إشغال قدرات الجيش الإسرائيلي كي لا تندفع كلّها نحو غزّة. هذا الإشغال ما عاد يفيد أو يضرّ لا في السياسي ولا في العسكري من شؤون الحرب الدائرة بهمجية وعنف إسرائيليّين لا جديد فيهما إلا ارتفاع منسوبهما.

ـ عدم الاستجابة لطلبه بوقف الحرب على غزّة يعني عنده “تدحرجاً” لكرّة الحرب وإشعالاً للإقليم. ومع وقف الحرب يريد تبادلاً للأسرى بين حركتي حماس والجهاد الإسلامي وبين إسرائيل.

ـ عدم مبادرة أميركا “المسؤولة الفعليّة عن الحرب” وعن أمدها الذي استطال خارج المتوقّع لن يمنع نشوب الحرب الإقليمية.

ـ النصر الذي يعدنا به سيكون بـ “النقاط والصبر”، وهذا يدحض رواية إيرانية رسمية شاعت كثيراً عن حرب تزيل إسرائيل بـ “ضربة قاضية” وزنها لا يستغرق إلا بضع دقائق.

ـ فتح باب الاحتمالات على مصراعيه في “غموض” يحترفه لمخاطبة الإسرائيليين حكومةً وشعباً.

فرضيّات التصعيد

حسناً، ماذا لو أهملت الولايات المتحدة مطالبه، وهي من جاء على لسان رئيسها جو بايدن دعوة “إسرائيل إلى عملية جراحية دقيقة” بدلاً من الحرب المفتوحة. وهو ومعه إدارته عادا إلى شيء من الصواب السياسي بالدعوة إلى وقف استهداف المدنيين والتزام قوانين الحرب، وذلك إثر المجازر الوحشية.

في المقابل، يحدث أنّ شيئاً من النهاية السياسية لرئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتانياهو كان قد بدأ كتابة بعض فصوله القضاء في قضايا رشى وفساد تتعلّق بالأخير. نتانياهو نفسه استلزمه لشيء من النجاة خوض أربعة انتخابات مع تحالفات كانت تتبدّل بين ليلة وضحاها حتى نجح في تشكيل حكومة.

وقائع الميدان العصيّة على الفهم من صنعاء إلى بيروت، تعيد للسياسة اعتبارها في السؤال عمّا بقي من “فلسطينية النصر” في اقتحام مستوطنات غلاف غزّة المحتلّة، إذا ما كانت هذه الأذرع إيرانية الهوى

حكومة نتانياهو ما لبثت أن دخلت بمعركة مع اجتماعها الأهلي والسياسي حول طبيعة الدولة ومدى ديمقراطيتها. المعركة ذُيّلت أيضاً بتوتّر عميق بين الديني والعلماني في دولة لم تترك كبيرة وصغيرة لتثبيت “يهوديّتها” على أرض غيرها وفي محيط غلبته إسلامية وبدرجة أقلّ مسيحية.

نوع من النهاية السياسية لنتانياهو ثبّتته عملية “طوفان الأقصى” جرّاء فشل على المستويات الأمنية والعسكرية والسياسية. في حالٍ كهذه، ومع العلاقات المتوتّرة بين رئيس الليكود وبين رئيس الحزب الجمهوري ما الذي قد يحصل لو تمسّك الأول برهانه على عودة الجمهوريين إلى البيت الأبيض؟ أو قل انكبابه على إعادة “هيبة” جيش أقام دولة لا جيش نظّمته دولة؟

غرابات خطاب السيّد

كان غريباً جداً أن يتقاطع أو يتلاقى الأمين العام للحزب مع موقف “الغرب الاستكباري” بحسب تسميته هو. التقاطع والتلاقي هذان كانا في نشدانه وقف الحرب على غزّة عبر توسّل المجازر بحقّ شعبها التي ترتكبها الوحشية والعنف الإسرائيليان. وهذا المطلب هو غربي عامّ حالياً استجدّ بعد عشرة أيام من الحرب اتّسمت بصمت مخيف.

مفهوم جدّاً وكان متوقّعاً على نطاق واسع أن يؤكّد السيد في خطابه المتلفز الموقف الإيراني لجهة عدم المسؤولية عن قرار العملية. سبقه إلى ذلك الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي يوم أكّد “فلسطينية النصر” في عملية “طوفان الأقصى”.

لكنّ وقائع الميدان العصيّة على الفهم من صنعاء إلى بيروت، تعيد للسياسة اعتبارها في السؤال عمّا بقي من “فلسطينية النصر” في اقتحام مستوطنات غلاف غزّة المحتلّة، إذا ما كانت هذه الأذرع إيرانية الهوى.

ذهب بعيداً امين عام الحزب في التمييز بين هياكل “قوى المقاومة” وبين ما تبقى من هياكل دول عند “محور الممانعة”. كان المُراد تحييد هذه “الدول”. ولابأس بإنخراط الأذرع من اليمن فالعراق ثم سوريا وصولاً إلى لبنان. هذا ما فعلته وتفعله الأذرع بالضبط حتى الساعة.

ما زلنا بعد الخطاب على ما كنّا عليه قبله. نحتاج إلى الاستئناس برأي العرّافين والعرافات وأريس إله الحرب عند الإغريق، كما كان يفعل القدماء

تشابه وترسيم بين السياسيّ والعسكريّ

لا يختلف كثيراً خطاب السيّد عن أداء حزبه العسكري عند الحدود اللبنانية ـ الفلسطينية. الفعلان مدروسان. فعل الخطاب وفعل التضامن العسكري مع غزّة. مبادرته إلى إعطاء الإجابة عن كيفية وقف الدم في غزّة لا تعني إلا تقدّماً على خطّ السياسة.

الحدّ الفاصل الذي وضعه كان انتصار حماس، وهو انتصار أيضاً لغزّة والفلسطينيين. هذا كلام يعني أنّ دخوله هو بما ومن يمثّل الحرب يبقى مُعلّقاً على انكسار القوّة الثانية بعد حزبه. لكنّه لم يحسم الأمر في شأن توسيع عمليات حزبه العسكرية. لم يعلن وقفها كما لم يعلن زيادة وتيرتها.

إصراره على الطبيعة الفلسطينية لعملية “طوفان الأقصى” وتفرّد حركة حماس، ينعطف على حدود الحرب الدائرة “الآن” مع إسرائيل. حروبه مع الدولة العبرية مفتوحة. “النصر” الآتي” سيكون بالنقاط وبالمراكمة. لا قدرة حتى الساعة على “الضربة القاضية”.

إذاً فليستعدّ اللبنانيون مجدّداً للعودة إلى مرحلة اللاحرب واللاسلم التي نعيشها منذ ذات نكبةٍ. تركنا السيّد مرّةً أخرى تائهين بين الحرب والسلم. لم يطلب في السياسة إلا عملية تبادل للأسرى ووقف للحرب مرحلياً وليس نهائياً. لم يأتِ على ذكر حلّ الدولتين.

أبعد من ذلك، قال نصر الله إن قرار الحرب والسلم ليس بيده. فما قام به حزبه منذ اليوم الثاني للحرب على غزة، كبير جدّاً، ولو حصل شيء منه في السابق لاندلعت الحرب على لبنان. هذا يعني أن قرار الحرب إذاً صار في يد إسرائيل. الأخيرة لا تريد فتح جبهتين. كونها لا تريد لا يعني انها لا تستطيع. لقد فعلت ذلك في أكتوبر من العام 1973 وأقعدت جيوشاً عربية. وقفت على مبعدة عشرات الكيلومترات عن دمشق لولا عملية تبادل أراضٍ قضت بما آلت إليه الاحوال آنذاك.

 

لا جديد

فعليّاً وعمليّاً لم يأتِ نصر الله بجديد. قال ما نعرفه جميعاً وما شاهدناه بأمّ العين عبر الشاشات ووسائل التواصل الاجتماعي، وما قرأناه وسمعناه من محلّلين عسكريين واستراتيجيين منذ أيام “طوفان الأقصى” الأولى، وقد مرّ شهر إلا أياماً عليها. الحزب يشغل العدوّ الإسرائيلي على جبهته الشمالية، لئلا يتفرّغ كلّياً لغزّة.

 

غموض بنّاء إيرانيّ… وفوضى خلّاقة أميركيّة

لم يطمئن نصر الله أهل الجنوب ولبنان. قال إنّ الاحتمالات كلّها مفتوحة، والخيارات كلّها مطروحة، ومن الممكن أن يذهب إليها في أيّ وقت من الأوقات. الأرجح بعد كلام كهذا أنّ من نزح لن يعود، ومن بقي صامداً ومرابطاً في انتظار الخطاب سيبقى على ما هو عليه.

عمليّاً، ثمّة سؤال يطرح نفسه بنفسه: ما الذي تغيّر بعد خطاب السيّد، عمّا كان قبله؟

لا شيء. لا هو وسّع الاشتباكات، ولا هو أوقفها. جلّ ما فعله أنّه لم يقع في ما وقع فيه عدوّه. لم يرفع سقف أهدافه، ولم يربطها بردّ محدّد. وحدها معادلة العودة إلى مدنيين مقابل مدنيين، هي ما لوّح به. وهذا يعني إلى عبارة “قواعد اشتباك” وقد عفا عليها الزمن بعد صدور القرار 1701.

تحدّث عن غموض بنّاء. “غموض بنّاء” إيراني، في مواجهة “فوضى خلّاقة” أميركية.

عود على بدء

لم يرفع نصر الله سقفه السياسي، ولم يضع سقفاً جديداً، في توجيهه تهديدات إلى الأميركيين. قوله إن ما يجري في غزة، أعاد طرح القضية الفلسطينية من جديد، صحيح إلى حد كبير. وفي مقاربته لما يحدث في القطاع المحاصر، أعاد الأمور والمجريات إلى منطلقها، وإلى بداياتها: نكبة العام 1948. الإسرائيليون أنفسهم، تدعمهم أميركا، أفصحوا عن مخططهم: أهل الضفة الغربية إلى الأردن، وأهل قطاع غزة إلى مصر، وتالياً القضية الفلسطينية إلى النسيان والزوال.

إقرأ أيضاً: خطاب الأجندة الإيرانيّة

والبدايات تستدعي البدايات، كما تستدعي النهايات. عملياً انطلق حزب الله ضد “الشيطان الأكبر”، ويعود إليه الآن.

وضوح شديد

الغموض البنّاء الذي اعتمده نصر الله تجاه “الشيطان الأصغر”، أي إسرائيل، عسكرياً، يفيد حماس في غزة. يقابله وضوح شديد في مخاطبة “الشيطان الأكبر”، أميركا، سياسياً، ولا أحد يعلم من يخدم؟ عملياً، أي في أرض المعركة خاطب الشيطانين معاً: إشعال الحدود اللبنانية قبل يومين، ومن أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، هو قضاء ميداني على القرار 1701.

ما زلنا بعد الخطاب على ما كنّا عليه قبله. نحتاج إلى الاستئناس برأي العرّافين والعرافات وأريس إله الحرب عند الإغريق، كما كان يفعل القدماء.

لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@

مواضيع ذات صلة

كريم خان يفرّغ رواية إسرائيل عن حرب “الطّوفان”

تذهب المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي إلى المسّ بـ “أبطال الحرب” في إسرائيل، رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع المقال يوآف غالانت. بات الرجلان ملاحَقَين…

هل يريد بايدن توسيع الحروب… استقبالاً لترامب؟

من حقّ الجميع أن يتفاءل بإمكانية أن تصل إلى خواتيم سعيدة المفاوضات غير المباشرة التي يقودها المبعوث الأميركي آموس هوكستين بين الفريق الرسمي اللبناني والحزب…

مواجهة ترامب للصين تبدأ في الشّرق الأوسط

 يقع الحفاظ على التفوّق الاقتصادي للولايات المتحدة الأميركية في صميم عقيدة الأمن القومي على مرّ العهود، وأصبح يشكّل هاجس القادة الأميركيين مع اقتراب الصين من…

الحلّ السعودي؟

ينبغي على واشنطن أن تُدرِكَ أنَّ المملكة العربية السعودية الأقوى تَخدُمُ الجميع، فهي قادرةٌ على إضعافِ قوّةِ إيران، كما يُمكنها أن تدفع إسرائيل إلى صُنعِ…