في العقود الستة الأخيرة، وبعد تفكيرٍ طويلٍ وسؤال كثيرين من الأكبر سناً والأعرف بالشؤون اللبنانية، ما وجدتُ شخصيةً سياسيةً مسلمةً في لبنان على شاكلة سعد الحريري، كانت وما تزال الأكثر تخييباً للجمهور السني بل وللجمهور اللبناني وربما أيضاً للعرب المهتمين بنا، مثل المصريين والسعوديين والكويتيين والإماراتيين والسورييين والعراقيين والأردنيين!
إقرأ أيضاً: سعد الحريري المتخصّص بهزيمتنا
كهل جزائري يعمل في إحدى المؤسسات الدولية ببيروت، سمع كلمة سعد الحريري عشية يوم الثلاثاء في 22/9 فاتصل بي مستغرباً وقال: هل هذا الرجل سياسي حقاً، فحتى الهواة لا يرتكبون هذه الكبيرة التي لن تساعد في تأليف الحكومة، أي حكومة، ولن يكون لها أثر غير زيادة إحباط الناس وبخاصةٍ المسلمين السنة!
تأخر سعد الحريري إلى ما بعد 4 آب حتّى رأى لنفسه مصلحةً في الاجتماع إلى زملائه الثلاثة الذين كانوا يرجونه من أجل الاجتماع عنده من شهورٍ طويلةٍ طويلة. وعندما جمعهم أخيراً استولى عليهم صمتٌ مطبقٌ، فما قالوا شيئاً مجتمعين عن زالزال بيروت، ولا عن حكم محكمة الحريري
خيبات سعد الحريري التي جناها على نفسه وعلى جمهوره وعلى الوطنيين اللبنانيين، لا تُعدُّ ولا تُحصى. وقد لفتت الناس في السنوات الأخيرة خيباته مع الرئيس عون وصهره، وإلاّ فالخيبات ووجوه سوء التقدير وسوء التدبير مع حزب الله ومع الثنائي الشيعي، ومع حلفائه في 14 آذار، ومواقفه من المحكمة الدولية الخاصة التي قامت للتحقيق في اغتيال والده الرئيس رفيق الحريري، كل ذلك أفدح وأعظم هَولاً. وكنت في النصف الثاني من العام 2017 وبعد السوء الحاصل في التسوية الرئاسية عام 2016، ثم في إدارتها من خلال التعيينات الإدارية والقضائية والدبلوماسية والأمنية والعسكرية، وصولاً إلى قانون الانتخابات العجيب، وحرب الجرود الكارثية؛ كنت بعد حصول ذلك كلّه قد وصفتُ سلوك الرئيس سعد الحريري في متواليةٍ من أربع محطات: التفويت، فسوء التقدير، فسوء التدبير، فالتواطؤ! لكنّه منذ ذلك الحين، بل قبل العام 2016 في كثيرٍ من الأحيان، كان يدخل في التواطؤ مباشرةً كما دخل الآن!
ما الذي حصل، وكيف؟ لا كيف كما يقول الصوفية: قلنا إنه تواطأ أو تآمر لا فرق. فخلال شهرٍ ونصف منذ مجيء الرئيس الفرنسي على أثر زلزال تفجير مرفأ بيروت الذي صدّع عهد عون كله، وأربك حزب السلاح إرباكاً شديداً لظهور أصابعه المتفجرة في كل النواحي، وعدم توقف العقوبات الأميركية عن الضغط والكشف والفضيحة، سنحت الفرصة لظهور عدة مبادراتٍ على المستوى السياسي والوطني:
– التضامن العالمي مع بيروت ومصابها والتماس كل السبل للمساعدة، وأولها إقامة حكومة فاعلة وقادرة وغير حزبية لا فساد فيها ولا سلاح، لتشكّل بمساعيها وإصلاحاتها بالداخل سبيلاً لمساعدة لبنان من الخارج.
– ارتفاع الصوت المسيحي ضد عهد عون وضد حزب الله وسلاحه، والانحياز للطائف والدستور والعيش المشترك. وقد تزعم كل النداءات خطابات وعظات البطريرك الراعي المتوالية والصدامية من أجل الوطن والمواطنين.
– تحوُّل التذمر السني العام من سنوات إلى رأي عام ناهض يدعم مبادرة البطريرك، ويسأل بغضبٍ وانزعاجٍ: أين هما القيادتان السياسية والدينية للمسلمين السنة؟! بين تخاذُل القيادتين وتهديدات حزب السلاح للسلم الأهلي كان الشبان السنة قد تفرقوا فانضوى بعضهم مع الحراك الثوري، وانهمك البعض الآخر في صنع مبادرات اجتماعية؛ في حين استثار النزاع الذي أثاره بهاء الحريري مع أخيه بعض العوام، وعادت الأجهزة لاستخدام بعض الشبان في اتجاهاتٍ متناقضة. زالزال المرفأ الذي غيَّر التوجه المسيحي جذرياً، غيَّر أيضاً اهتمامات المسلمين السنة فالمدينة مدينتهم، وها هي محكمة الحريري التي قضت في 18 آب أنّ مجموعةً من حزب السلاح بقيادة سليم عياش هي التي اغتالت الرئيس رفيق الحريري. وبذلك حصل الإجماع بين السنة والمسيحيين على معاداة حزب السلاح والعهد القوي، وعلى التمسك بالثوابت، ثوابت الطائف والدستور.
– تأخر سعد الحريري إلى ما بعد 4 آب حتّى رأى لنفسه مصلحةً في الاجتماع إلى زملائه الثلاثة الذين كانوا يرجونه من أجل الاجتماع عنده من شهورٍ طويلةٍ طويلة. وعندما جمعهم أخيراً استولى عليهم صمتٌ مطبقٌ، فما قالوا شيئاً مجتمعين عن زالزال بيروت، ولا عن حكم محكمة الحريري. ووقتها كتبتُ: كنا نرجوكم أن تجتمعوا، ونحن نرجوكم أن لا تجتمعوا حتى لا تستمر الخيبة وتتعاظم. ونحن نعرف اليوم أنّ ذاك الصمت والمهادنة، سببه الإخراج الملائم الذي ارتآه الفرنسيون للحكومة المستقلة والسريعة، والتي ينبغي أن يسمي الحريري رئيسها. وقد أفلح الأمر في البداية وصَّوت الجميع لمصطفى أديب، بمن في ذلك جبران باسيل والثنائي العظيم.
– جاءت الظروف ملائمة لسعد وحده وللرباعي مجتمعاً. ليس باعتبارهم يحظون بمظلة فرنسية فقط. بل لأنهم للمرة الأولى منذ العام 2011 عادوا ليسمُّوا رئيس الحكومة أو يُسألوا في ذلك. وقد بدأ بعض كبار السنة يسألون: أَوَلا يكون هؤلاء الثلاثة من حول سعدهم القيادة السياسية المؤقتة للمسلمين، بسبب صمودهم في مواصفات الحكومة، وبسبب إحاطتهم بسعد الحريري بحيث لا يشطّ أو يستسلم كالعادة؟ وأخيراً بسبب استجابتهم لنداء البطريرك في التمسك بالطائف!
– عشية عودته للاستسلام والتخييب، كانت قد جدّت أحداثٌ وظروفٌ للصمود والتعالي على الجراح، واستشراف الفرصة لخلاص لبنان من السلاح ومن العهد! فيوم الإثنين في 21/9 خطب رئيس الجمهورية فأظهر تمسكه بالدستور، وقال إنّ الدستور لا ينص على وزارةٍ لأحد. وهو موقفٌ قاله قبله صهره مع الإشادة بالقرار الدولي رقم 1701. ويوم الثلاثاء في 22/9 وعندما كان سعد الحريري قد اتخذ قراره بالاستسلام، حدث في الجنوب اللبناني انفجارٌ هائلٌ في مخزنٍ للسلاح لحزب الله في قرية عين قانا. وهذا يعني – كما يعرف اللبنانيون والقوات الدولية وطبعاً الإسرائيليون – أنّ حزب السلاح يخزّن سلاحه في الأعيان المدنية ومن بيروت إلى الجنوب- وأنّ ذلك يخرق القرارين الدوليين: 1701 و1559.
هو يتجاهل الدستور كما تجاهله السوريون دائماً لمرةٍ واحدة، كما قال هو، وكما كانوا يقولون. ووصّف الآلام التي أحسَّ بها وهو يُقدمُ على هذا العمل “الشجاع” بمخالفة الدستور للمرة الألف، بعد صمودٍ صامتٍ لم يدُم أكثر من أسبوعين!
لقد كان من واجب سعد الحريري وحتى لو ضغط عليه الفرنسيون أو أحرجوه – كما قال – أن يستند إلى موقف عون الذي انحاز للدستور للمرة الأولى بعد ثلاثين عاماً من القطيعة- وإلى الانفجار في عين قانا مثل مرفأ وعين بيروت، ليعلن: تمسكه بالطائف والدستور، وأن لا شراكة مع الحزب ما دام يشهر السلاح الذي يقتل اللبنانيين وعيشهم الوطني ونظامهم الدستوري، قبل الإسرائيليين. الكيان الصهيوني يستطيع حماية ناسه، فمن يحمي اللبنانيين والسوريين والعراقيين واليمنيين والكويتيين والبحريين من شرور سلاح حزب السلاح؟!
حزم سعد الحريري أمره أو فكَّه منذ الأحد في 20/9 واستشار زملاءه الرؤساء يوم الإثنين في 21/9، وعندما لم يجد قبولاً مضى باتجاه الحفرة التي اعتاد على حفرها لنفسه قبل أن يشدّ عليه الآخرون لتعميقها، وجعل خروجه منها مستحيلاً. ضحك عليه الفرنسيون وقالوا إن الثنائي قبل أو سيستحي أن لا يقبل. وهو يتجاهل الدستور كما تجاهله السوريون دائماً لمرةٍ واحدة، كما قال هو، وكما كانوا يقولون. ووصّف الآلام التي أحسَّ بها وهو يُقدمُ على هذا العمل “الشجاع” بمخالفة الدستور للمرة الألف، بعد صمودٍ صامتٍ لم يدُم أكثر من أسبوعين! نعم، قال الحريري، المالية لشيعي لمرةٍ واحدةٍ رغم مخالفة ذلك للدستور إصغاءً للمصلحة الوطنية ومعذرةً للنفس في ضرورة تشكيل حكومةٍ سريعاً!
وطبعاً الحزب والحركة لم يقبلا لأنّ “المبادرة” ناقصة من جوانب عدّة. والرئيس المكلف صار جانبه أضعف بكثير. ورئيس الجمهورية بدا موقفه أقوى: تصوّروا أن سعد الحريري أتاح لعون القول إنّه أكثر تمسكاً منه بالدستور. وكلّ ذلك لا يفيد بالطبع في تشكيل الحكومة، لأنّ الجماعة يريدون انتظار الانتخابات الأميركية، فربما استطاعوا بعدها تشكيل حكومةٍ، ليس بدون سنّة، بل وبدون مسيحيين أيضاً! ألا تعرفون حزب السلاح، منذ العام 2000 على الأقلّ، إذا أعطيته يدك اجتذبك وافترسك كلّك!
تجرعك السمّ معهم ليست المرّةَ الأولى ولا العاشرة. وشأنك وما تفعله، فسلطةُ القول هذه المرة أعطاك إياها الفرنسيون، ومنذ العام 2012 كان يعطيك إياها المسلّحون. نعم، يا سعد الحريري: تجرع السم وحدك
أحسن الرؤساء الثلاثة بالتبرّؤ من خطوة سعد الحريري. سهل أن تكونوا بديلاً لسعد. أما زعامة المسلمين فتحتاج إلى مواقف وطنية إضافية.
ويا سعد الحريري كفاك إضراراً بمصالح المسلمين ومصالح اللبنانيين. تقول إنّك تتجرّع السمّ، كما قال الخميني عام 1988، وكان ذلك في قرارٍ كبيرٍ لإيقاف الحرب الضروس مع العراق؛ أما اليوم فإنّ تجرعك السمّ معهم ليست المرّةَ الأولى ولا العاشرة. وشأنك وما تفعله، فسلطةُ القول هذه المرة أعطاك إياها الفرنسيون، ومنذ العام 2012 كان يعطيك إياها المسلّحون. نعم، يا سعد الحريري: تجرع السم وحدك!
لا شأن لنا بك.
كلانا غنيّ عن أخيه حياته / ونحن إذا متنا أشدُّ تغانيا.
ولا شأنَ لك بنا.