بيان وزارة الخارجية اللبنانية تطوّر كبير جدّاً في المسار السياسي اللبناني. فليس تفصيلاً أن تدين الخارجية “الهجمات الصاروخية التي تعرضت لها المنشآت المدنية في مدينتي الرياض وجيزان في المملكة العربية السعودية، والتي شكلت تعدياً صارخاً على السيادة الوطنية لدولة شقيقة وانتهاكاً للقانون الدولي وعرّضت سلامة المدنيين الآمنين للخطر”.
هذا البيان، لو أصدرته وزارة الخارجية في الحكومة السابقة، حين كان جبران باسيل وزير الخارجية، لتغيّر الكثير الكثير في أحوال لبنان واللبنانيين، على مستويات كثيرة. لكنّ رفض الخارجية في حينه إدانة الهجمات على شركة “آرامكو” جعل لبنان في عين عاصفة الغضب العربي، وأكّد انضمام “الدولة” اللبنانية إلى محور الحوثيين وإيران.
إقرأ أيضاً: باسيل يغازل الأميركيين: ترسيم الحدود هو الأساس؟
قبلها، في شباط 2016، كان لبنان الرسمي قد امتنع عن إدانة الهجمات الإيرانية على سفارة السعودية وقنصليتها في طهران. وكان الردّ على لسان مصدر سعودي يومها، في حديث لـ”وكالة الأنباء السعودية”، هو وقف مساعدات للجيش اللبناني بقيمة 3 مليارات دولار، ووقف دفع ما تبقّى من مساعدة بقيمة مليار دولار لقوى الأمن الداخلي.
اليوم، أصدرت وزارة الخارجية بياناً أدان الهجمات، و”رحّبت الوزارة بالجهود التي تقوم بها كافة الأطراف المؤثرة في الأزمة اليمنية وذلك لخفض التصعيد وصولا لحل سياسي يؤمن نهاية لهذا الصراع الدموي”.
بيان ليس عابراً، وهو رسالة، بلا شكّ، على مشارف توجّه حكومة الرئيس حسّان دياب، إلى “صندوق النقد الدولي”. رسالة بأنّ لبنان الرسمي بدأ يغيّر سلوكه الخارجي، على الأقلّ وزارة خارجيته في حكومة دياب، تلك التي شكّلتها الأكثرية التابعة لحزب الله. أكثرية وصفها قاسم سليماني بأنّها “أكثرية 74 نائباً لحزب الله في البرلمان اللبناني”، في حزيران 2018.
قبل هذا كانت الحكومة قد أعطت الأميركيين عامر الفاخوري، بغضّ نظر من حزب الله كذلك. وقد خرج الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله على جمهوره صارخاً وغاضباً ومؤنّباً من عاتبوه ومهدّداً من اعترضوا بأنّ انتقاده في موضوع المقاومة “خطّ أحمر”. وسخر من الذين دعوه إلى “تحرير القدس”. وأقفل ملفّ الفاخوري بالصوت العالي.
وبين الفاخوري وبيان “الخارجية” سحب دياب من جلسة مجلس الوزراء بند “التعيينات المالية”، بعد كلام أميركي واضح بأنّ المطلوب التمديد لنائب حاكم مصرف لبنان محمد بعاصيري. كلام جعل النائب حسن فضل الله يخرج ليتحدث عن “تدخّل أميركي”، في محاولة لـ”فضح” هذا التدخّل إعلامياً والتحريض عليه شعبياً. لكنّ كلامه لم يحدث أيّ أثر يُذكر، لأنّ اللبنانيين في مكان آخر. وكان أن سحب دياب بند التعيينات، اتّقاءً لشرّي، حزب الله، والأميركيين.
اليوم تعلم وزارة خارجية لبنان أنّها تدين القصف الحوثي، ولو من دون تسمية الحوثيين. ولا تبدو نبرة البيان محايدة. فهو يختم بدعوة إلى “خفض التصعيد وصولاً لحلّ سياسي يؤمّن نهاية لهذا الصراع الدموي”. من دون أن يساوي البيان حتّى بين الحوثيين والسعوديين، أو بين القصف الحوثي وبين القصف السعودي. وفي هذا تبنٍّ كاملٍ للموقف السعودي، بمواجهة الحوثيين.
اللافت أنّ حزب الله يفاجئنا ببراغماتيته. وهذا ليس عيباً ولا نقيصةً. كتبتُ هنا قبل أيّام بأنّ “مهمّة نصر الله في 2020 هي إعادة جمهوره إلى العقل والصواب”. أي أنّ نصر الله، وحزبه حزب الله، بدأ يعي المتغيّرات الكبيرة التي “ضربت” أسس الدولة في لبنان وأسس المجتمع اللبناني، وكيف أنّ الغضب العربي والأميركي جعل الدولار 3 آلاف ليرة، وجعل لبنان أشبه بدولة مارقة على رصيف المجتمعين العربي والدولي.
بات واضحاً أنّ حزب الله اتّخذ خيار تسهيل التطبيع مع العرب ومع الأميركيين، وحكومة دياب ذاهبة إلى صندوق النقد الدولي
حزب الله بدأ يقتنع بأصول اللعبة. بدأ يدرك أنّ إيران لا يمكنها أن تحكم لبنان. لا يمكن لها، ولو بمليون صاروخ، وليس 100 ألف صاروخ فقط، ولا بمليون مقاتل شيعي، وليس 100 ألف أو 50 ألفاً فقط. فلبنان تحكمه مصالح اللبنانيين وأرزاقهم وخياراتهم. واكتشف حزب الله، متأخّراً ربما، أنّه في مواجهة الأزمة المالية، كما في مواجهة فيروس كورونا المستجدّ، لا تنفع الصواريخ ولا تنفع القوّة العسكرية. وحتّى في سوريا، قد يكون متعذّراً إرسال مقاتلين في زمن الكورونا.
وإذا كانت انتخابات 2018 قد أعطت حزب الله أكثرية نيابية، إلا أنّ ثورة 17 تشرين 2019 نزعت هذه الشرعية الانتخابية، أو قل نزعت جزءًا كبيراً منها. وأعلنت الثورة بوضوح أنّ قانون الانتخابات الهجين الذي أوصل أكثرية حزب اللهية تشاوف بها سليماني ذات يوم، هي انتخابات منقوصة الشرعية الشعبية، ولا بدّ من انتخابات جديدة، وفق قانون أكثر عدالةً وأقلّ مذهبيةً، تأتي بممثّلين شرعيين للبنان يحدّدون خياراته، بالسياسة، وليس بالسلاح والصواريخ والمقاتلين.
بيان وزارة الخارجية اللبنانية خطوة ثالثة في مسار الألف خطوة، من الفاخوري إلى بعاصيري، وغداً سنشهد ملفات كثيرة مماثلة، لكن بات واضحاً أنّ حزب الله اتّخذ خيار تسهيل التطبيع مع العرب ومع الأميركيين، وحكومة دياب ذاهبة إلى صندوق النقد الدولي. وبات واضحاً أنّ ما تعسّر على سعد الحريري، سيكون ميسّراً لحسّان دياب، وما رفض الحزب إعطاءه للحريري، ها هو يعطيه مباشرةً، دون وسيط لبناني، إلى المجتمع الدولي.