“ولّت أيام الملاهي الليلية في بوهاين”. ليست هذه العبارة الوحيدة التي تُحيل إلى مقارنة آنية بين بيروت وبوهاين في رواية كيفن باري “مدينة بوهاين” (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر- ترجمة فاديا عبدوش) الفائزة بجائزة “دبلن العالمية” وجائزة “الاتحاد الأوروبي” للآداب.
الكاتب الإيرلاندي على الغالب لا يعرف بيروت. وهو يكتب عن مدينة من المستقبل. كتب روايته في العام 2011 وأحداثها تدور في العام 2053. أربعون عاماً في المستقبل. وبوهاين، المدينة، “آيلة للسقوط بفعل ارتكاب المعاصي وتفشّي الرذيلة والانقسامات القبلية والعائلية”، كما جاء على الغلاف الخلفي للكتاب. المدينة المتخيّلة في المستقبل متخفّفة من المظاهر التكنولوجية، وبلا شرائع وقوانين، يسير فيها قطار وحيد هو وسيلة النقل الوحيدة. مدينة بشوارع خلفية كثيرة وبحكايا معقّدة وصراعات بين لوغان هارتنت وغانت خصمه القديم العائد إلى المدينة بعد غياب 25 عاماً بحثاً عن امرأة أحبها وسعياً إلى انتقام.
إقرأ أيضاً: “مكتبة السلام”: من الثقافة إلى الزراعة
لكن الرواية تحيل، بمعزل عن تفاصيلها الدرامية، وشخصياتها، إلى بيروت. تحيل إلى مدينتنا في أسوأ أوضاعها الحالية. تحيل إلى زمن كورونا. إلى زمن الانهيار الاقتصادي في بيروت. عندما تقرأ في الرواية عن رجال السلطة أنهم كانوا “أشخاصاً يائسين يتقاضون أجوراً منخفضة” وعملهم هو “إبقاء المدينة متحضّرة بطريقة ما”. وعن الشوارع الهزيلة التي مالت فيها “بيوت المدينة القديمة الواحد نحو الآخر حتى يخيّل إليك أنها تسأل: “كيف حالنا الآن؟” وكأن المنازل القديمة يسند أحدها الآخر فيمنعه من الانهيار”. والنهر، نهر بوهاين، “متاعبنا كلها مصدرها ذاك النهر، لا خلاف في ذلك، الفساد الذي يلوّث هواء المدينة فساد يتصاعد من ذلك النهر”. يتحدّث عن نهر بوهاين: “مياهه سوداء خبيثة تتدفق هادرة من أراضي بيغ نوثين القفراء القاحلة، انبثقت عنها المدينة وحملت اسمها مدينة بوهاين”. ألا يحيلك كلّ هذا إلى بيروت؟ ألا يشبه نهرها الملوّث نهر بيروت الذي جفّ وتلوّث حتى كاد يختفي؟
لم يكن كيفن باري قد ولد بعد (مواليد العام 1969) حين كتب عمر الزعنّي في العام 1938: يا ضيعانك يا بيروت
لقد اختلق باري مدينته، لكنها تشبه مدناً كثيرة، وأحداث روايته تشبه أحداثاً كثيرة عاشها كثيرون في مدنهم. ونحن نعيش في زمن بيروت الحالي شيئاً من هذا الانهيار العظيم الذي عاشته بوهاين في المستقبل. مدينتنا حزينة، مقفلة، وآيلة إلى السقوط بفعل تفشّي الفساد والانهيار الاقتصادي الذي تسبّبت به طبقة سياسية وقحة. في بوهاين يقول باري إن اضطراباً يتحضّر، وأن هناك دماء ستسفك قريباً، ويدرك أبناء المدينة احتمال ألّا يكون الهدوء المديد في مصلحة المدينة، وأنه يجب ألاّ يقاوم أيّ مكان طبيعته لوقت طويل. وفي بيروت نشعر دائماً أن الهدوء المديد ليس من شيم مدينتنا. فنخرقه كلّ فترة باضطراب أمني أو اقتصادي. نتحاكى بالعنف والجوع. لا نعرف لغات كثيرة. حتى في أوقات الهدوء المديدة، والتي استمرت في فترة أولى بين نهاية الحرب الأهلية وأحداث السابع من أيار، كان الجمر لا يزال هناك، تحت الرماد. نحاول ألّا نقاوم طبيعة مكاننا الذي لمّا يزل منذ القرن الماضي ينازع بين الخير والشرّ. بين الاضطراب والهدوء. بين المدينة والخراب. لم يكن كيفن باري قد ولد بعد (مواليد العام 1969) حين كتب عمر الزعنّي في العام 1938: “يا ضيعانك يا بيروت/ يا مناظر غشاشة/ يا عروس بخشخاشة/ يا مصمودي بالتابوت/ يا ضيعانك يا بيروت/ الجهلاء حاكمين/ والأرزال عايمين/ والأنذال عايشين/ والأوادم عم بتموت/ يا ضيعانك يا بيروت/ الخامل حامل نيشان/ والسافل له قدر وشان/ يا ضيعانك يا بيروت/ الغريب بتمخطر/ والقريب بيتمرمر/ واللي بيفوت ما بيضهر/ واللي بيضهر ما بيفوت/ يا ضيعانك يا بيروت”.
رواية كيفن باري تقفل على تشاؤم. إحدى بطلات الرواية “ترى في السماء المنقشعة وميض الزمن الضائع يتلاشى ويختفي ببطء”. لكن بيروت استطاعت أن تنفض دائماً غبار الأزمات عنها وتعود من أزمانها الضائعة. وعادت بعد كلمات الزعني إلى المجد في خمسينات وستينات القرن الماضي، ثم ما لبثت أن غرقت في السواد والحرب والدموع، ثم خرجت، ثم عادت، ثم تخرج، ثم تعود… وهكذا… “لا يستطيع أيّ مكان أن يقاوم طبيعته لوقت طويل”، نكرّر مع كيفن باري. ربما كان على حقّ.
ربما.