بمراجعة تاريخ البطريركية المارونية منذ قيام “لبنان الكبير” وخصوصاً بعد الاستقلال، يمكن الركون إلى ثابتتين في مسارها السياسي: أولّهما أنّ بكركي كانت دائمة الحضور وقت الأزمات السياسيّة والوطنية الكبرى. وثانيتهما أنّها تتقدّم إلى صدارة المشهد السياسي المسيحي عندما تعتبر أنّ القيادات المارونية الرئيسية تتراجع عن ثوابتها السياسية التي تحاكي العناوين الأساسية للسياسة الفاتيكانية تجاه “بلاد الأرز”، خصوصاً وحدة الكيان اللبناني وعيشه المشترك. وهو ما شدّدت عليه “شرعة العمل السياسي في ضوء تعليم الكنيسة وخصوصية لبنان”، الصادرة في 5 آذار 2009. والشواهد على هاتين الثابتتين كثيرة، منذ العام 1920، مروراً بالاستقلال، ثمّ أحداث 1958، وحرب 1975، فاتفاق الطائف وحقبة الوصاية السورية، ثمّ “الاستقلال الثاني”، وصولاً إلى الأزمة الحالية. هذا مع العلم أنّ الظرف السياسي وشخصيّة البطريرك لطالما كانا عاملين محدِّدين لحجم حضور البطريركة المارونية في المشهد السياسي والوطني وطبيعة هذا الحضور.
إقرأ أيضاً: نداء البطريرك… عن طيف إميل لحّود في بعبدا
لقد خلف البطريرك بشارة الراعي بطريركاً سياسياً بامتياز شارك عن قرب في صناعة أحداث سياسية مفصلية خصوصاً منذ إطلاق نداء البطاركة الموارنة في العام 2000. لكنّه وبخلاف البطريرك نصرالله صفير، لم يجعل من بكركي مركز استقطاب سياسياً، ولم ينخرط في الشأن السياسي على نحوٍ منهجي. علماً أنّ صفير عندما أطلق نداءه في العام 2000 كان يتولّى القيادة السياسية للموارنة، بينما كان المشهد السياسي الماروني عند تولّي الراعي منصبه مختلفاً تماماً مع عودة القيادات المارونية إلى واجهة العمل السياسي، ما جعل الحضور السياسي لبكركي يخفت تدريجاً منذ سنوات عهد صفير الأخيرة.
ذلك قبل أن يستأنف الراعي هذا الحضور بشكل مختلف عن سلفه. إذ حاولت بكركي منذ العام 2011 تشكيل مظلّة “بطريركية” للزعماء الموارنة، وقد جمعتهم في العام 2011 على طاولتها. أي أنّها، وإن لم تتماهَ كليّا مع هذه القيادات، إلا أنّها لم تتبنّ سرديّة سياسيّة تتناقض مع سرديتّها الرئيسية التي عبّر عنها بشكل أساسي “اتفاق معراب” في العام 2016. ثمّ وبعد انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، كثّف البطريرك الراعي زياراته القصر الجمهوري في دلالة واضحة إلى دعمه سياسة سيّده أو بالحدّ الأدنى عدم معارضته لها، وعدم إبدائه تحفّظات عليها.
حاولت بكركي تشكيل مظلّة “بطريركية” للزعماء الموارنة، وقد جمعتهم في العام 2011
منذ 17 تشرين الأول 2019، أي منذ اندلاع الانتفاضة في وجه السلطة الحاكمة كمؤشر فعلي على حجم الأزمة المالية والاقتصادية، بدا أنّ بكركي بدأت تُخضع “الخط” الذي رسمته لنفسها خلال السنوات الأخيرة، إلى تعديلات أساسية. فبتنا نشهد اندفاعتها نحو إعادة تفعيل حضورها في المشهد السياسي والوطني. منذ ذلك التاريخ والبطريرك الراعي يدعو السلطة السياسية إلى “عدم تجاهل صرخة المواطنين”، كما قال في عظته يوم الأحد 27 تشرين الأول 2019، أي بعد نحو عشرة أيام على اندلاع “الثورة”، وذلك في دليل واضح على دعمها وتأييد مطالبها في وقت اعتبرها العهد مؤامرة ضدّه.
مذّاك و”سيّد بكركي” يصعّد موقفه السياسي بطريقة منهجية وينتقد أداء “الجماعة السياسية” وصولاً إلى قوله في 23 حزيران الماضي إنّ “وجه وطننا بدأ يسلك طريق النظام البوليسي”. أتى ذلك بعد ازدياد عمليات اعتقال “ناشطي الثورة”، وتزايد الاتهامات الموجّهة للعهد بالتضييق على حرية الرأي والتعبير. علماً أنّ إعلان الراعي هذا الموقف تزامن مع الادّعاء على المفتي السيّد علي الأمين بـ”جرم لقاء مسؤولين إسرائيليين”. وكان الراعي قد دعا نهار الأحد في 21 حزيران الماضي إلى إرجاء “اللقاء الوطني” الذي انعقد في قصر بعبدا في 25 منه، بغياب قيادات سياسية أساسية، قائلاً: “إما أن يعقد (اللقاء) في الموعد المحدّد أو أن يرجأ لفترة إعدادية ضرورية، فيبقى الأساس فيها الذهاب إلى جوهر المشكلة وطرح الحلّ الحقيقي”. وهو ما عكس تحفظّ بكركي على جدول اعمال اللقاء الذي “لا يطرح جوهر المشكلة ولا الحلّ الحقيقي” لها.
وفي السياق نفسه، خطا الراعي في عظة قداس الأحد في 5 الجاري خطوة إلى الأمام في تأييد “الثورة التي ما زالت نارها مشتعلة”، متهمّاً المسؤولين السياسيين بالمراهنة على انطفائها، وهم مخطئون”. ثمّ تطرّق إلى قضّية انتحار عدد من المواطنين في الأيام القليلة الماضية، في وقت لم ينبس رئيس الجمهورية ولا رئيس الحكومة ببنت شفة حيالها. وقال: “ثورة شعبنا الجائع (…) تستحق الحماية الأمنية لا القمع”، في موقف يشكّل استكمالاً لتحذيره السابق من النظام البوليسي.
منذ 17 تشرين الأول 2019 بدأ البطريرك الراعي يدعو السلطة السياسية إلى عدم تجاهل صرخة المواطنين
لم يتوقّف الراعي عند هذا الحدّ في انتقاد السلطة السياسية، بل أسف لكون “المسؤولين السياسيين، من مختلف مواقعهم”، أي بما في ذلك رئيس الجمهورية، “لا يمتلكون الجرأة والحرية الداخلية للالتقاء وإيجاد السبل للخروج من أسباب معاناتنا السياسية التي هي في أساس أزماتنا الاقتصادية والمالية والنقدية والمعيشية”. وهذا موقف جديد لبكركي لناحية ردّها الأزمة الاقتصادية والمالية إلى أسباب سياسية. وهو موقف وإن لم يتهم العهد مباشرة، غير أنّه لا يعفيه من المسؤولية عن الأزمة. والأمر نفسه ينطبق على حديث الراعي عن “حرمان لبنان من ثقة الأسرتين العربية والدولية”.
أمّا الموقف السياسي الأهمّ في عظة “سيّد بكركي”، فكان مناشدته رئيس الجمهورية العمل على فكّ الحصار عن الشرعية والقرار الوطني الحرّ، وطلب من “الدول الصديقة الإسراع إلى نجدة لبنان”. كما توجّهه إلى منظمة الأمم المتحدة بدعوتها إلى “العمل على إعادة تثبيت استقلال لبنان ووحدته، وتطبيق القرارات الدولية، وإعلان حياد لبنان لضمان وحدته وتموضعه التاريخي ودوره في استقرار المنطقة والدفاع عن حقوق الدول العربية وقضية السلام، وفي العلاقة السليمة بين بلدان الشرق الأوسط وأوروبا”.
وهذا موقف غير مسبوق لبكركي لجهة تأكيدها أنّ الشرعية والقرار الوطني الحرّ محاصران، واعتبارها أنّ رئيس الجمهورية لا يعمل على فكّ هذا الحصار، وإلا لما كانت دعته إلى فعل ذلك. كما أنّ تتمة هذا الموقف لجهة دعوة الراعي الأمم المتحدة إلى تطبيق القرارات الدولية وإعلان حياد لبنان، تغمز من قناة “حزب الله” المتحسّس جداً من عودة التداول السياسي والشعبي بالقرارات الدولية خصوصاً القرار 1559 فضلاً عن تحسسّه من مسألة حياد لبنان، وهو لطالما أكّد أنه “سيكون حيث يجب أن يكون” في ساحات الصراع في المنطقة.
كلّ ذلك يؤشر إلى أنّ البطريركية المارونية قد دخلت مرحلة جديدة في تعاملها مع الأزمة الحالية وتداعياتها. خصوصاً انّها متأثرة بقوة بها في ظلّ أزمة المدارس الكاثوليكية فضلاً عن المؤسسات الكنيسة الأخرى.
وعلى ما يبدو من تصعيدها المنهجي بوجه السلطة السياسية، تبدو بكركي مصمّمة على إعادة إنتاج دورها السياسي والوطني. يحفزّها على ذلك أمران: خطورة الأزمة الراهنة، وتلاشي قدرة القيادات المارونية على التصدّي لتداعياتها على الموارنة ولبنان.
فهل تستعدّ بكركي لمبادرة سياسية عملية يكون مدخلها نداء سياسي على غرار نداء المطارنة في العام 2000؟ هل تفعّل “ديبلوماسيتها” للإضاءة على حقائق الأزمة اللبنانية وجذورها السياسية؟ هل تسعى إلى تدعيم موقفها بملاقاة جهات إسلامية معترضة على الوضع الحالي، وذلك على جاري عاداتها في الأزمات الكبرى؟
كلّها أسئلة ستكون الأسابيع المقبلة كفيلة بتبيان الأجوبة عليها. وإنّ غداً لناظره قريب.