برّي ستر الدولة بعدما “زلطها” استشاريو السراي

مدة القراءة 7 د


كان مستشارو السراي يأخذون لبنان إلى الهاوية المالية، خلال مفاوضاتهم مع صندوق النقد الدولي. ولولا تدخّل الرئيس نبيه برّي، لكان لبنان سيدفع أضعافاً مضاعفة فاتورة أيّ مساعدة من “الصندوق”. تدخّل تمّ عبر لجنة تقصّي الحقائق في المجلس النيابي، المنبثقة عن لجنة المال والموازنة النيابيّة، التي يرأسها النائب ابراهيم كنعان.

إقرأ أيضاً: كنعان “قارئ مبكّر” لتطوّرات أرقام المنطقة

ولجنة تقصّي الحقائق تفرّعت قبل سنوات من لجنة المال والموازنة، وقد فوّضتها اللجنة الأساسية التحقيق في الأرقام والمقاربات التي اعتمدتها الحكومة، ضمن سياق الواجب الدستوري لمجلس النواب في مراقبة عمل الحكومة. وهدفها توحيد المقاربات والأرقام، التي كاد تكاثرها وتضاربها أن يطيح بالمفاوضات بين لبنان و”الصندوق”.

اللجنة أسقطت فرضيّات ومقاربات وأرقام خطّة الحكومة، بسبب العيوب الكثيرة التي تعاني منها الخطة. تلك كانت قد “زلّطت” لبنان ماليّاً منذ البداية، كما ينقل بعض زوّار عين التينة عن الرئيس نبيه برّي. وهو ما دفعه إلى تلقّف المسألة باكراً في أروقة المجلس النيابي لترويض الخطّة وتصحيح أرقامها ومقاربتها، وإنقاذ ملفّ التفاوض مع صندوق النقد، والأرقام التي يستند إليها، من شعبويّة بعض استشاريي رئاسة الحكومة وجهلهم الفعلي.

مصادر نيابيّة من داخل لجنة المال والموازنة تصف لـ”أساس” المشهد قبل تدخّل اللجنة وتصحيح الأرقام: صندوق النقد، بوصفه دائناً دولياً محتملاً، وجد نفسه تلقائيّاً في موقع الطرف الراغب بفرض أقسى الشروط وأكثر الإجراءات جذريّة، بهدف حماية مصالحه عند منح القرض، إلى أبعد حدود. ولذلك، كما جرى في كلّ البلدان التي تدخّل فيها، كان من الطبيعي أن يرغب الصندوق في تبنّي أكثر المقاربات تشدّداً عند تقدير خسائر الانهيار المالي، بهدف التوصّل إلى أكبر من قدر من المعالجات التي تؤكّد قدرة الدولة على سداد القرض الذي سيمنحه الصندوق، دون اللجوء مستقبلاً إلى إعادة جدولة هذه القروض.

لولا تدخّل لجنة تقصّي الحقائق لاحقاً، يمكن القول إنّ لبنان كان سينطلق في مفاوضاته مع وفد الصندوق من أضعف نقطة يمكن الانطلاق منها

في المقلب الآخر، كان على الحكومة كطرف مقبل على التفاوض مع الصندوق للاستدانة، أن تسعى، بطرق شتّى، إلى تخفيف وطأة شروط الصندوق على النظام المالي اللبناني، وتخفيف كلفتها على البلاد. فتضخيم الخسائر المقدّرة كما يرغب الصندوق ووفده، كان سيعني تلقائيّاً تضخيم كلفة المعالجات المقبلة، سواء تعلّق ذلك بالودائع الموجودة داخل النظام المصرفي، أو بأصول الدولة التي ستخصّص بطريقة أو بأخرى لإطفاء كلفة الخسائر، أو حتّى بالنسبة إلى سلامة النظام المصرفي نفسه الذي لا يمكن أن ينهض لبنان اقتصاديّاً دونه في المستقبل.

لكن ما جرى عمليّاً من طرف الحكومة كان العكس تماماً، وبدل السعي إلى التفاوض مع الصندوق لتخفيف أثر شروطه، دفعت مجموعة من الاستشاريين في أروقة السراي الحكومي إلى الاتجاه المقابل تماماً، فقدّمت لوفد الصندوق ما يريده على طبق من ذهب، من خلال اعتماد المقاربات التي تسجّل أكبر من قدر من الخسائر في خطّة الحكومة الماليّة. ولولا تدخّل لجنة تقصّي الحقائق لاحقاً، يمكن القول إنّ لبنان كان سينطلق في مفاوضاته مع وفد الصندوق من أضعف نقطة يمكن الانطلاق منها، وهو ما دفع رئيس المجلس النيابي لاستخدام مصطلح “تزليط لبنان” لوصف ما قام به مجموعة استشاريي الحكومة الذين عملوا على الخطّة. أو الخطة التي وصفها النائب ياسين جابر بأنّها قدّمت لبنان “عارياً” أمام صندوق النقد الدولي.

كانت قلّة خبرة فريق الاستشاريين الذين عملوا على الخطّة واضحة للعيان. أولى المؤشّرات التي دلّت على ذلك كانت استسهال الفريق العمل على الخطّة دون محاولة التواصل مع حاكم مصرف لبنان للتفاهم معه حول المقاربات التي جرى العمل عليها. رغم أنّ الجزء الأكبر من الخسائر التي تحدّثت عنها خطة الحكومة اتصلت بالدرجة الأولى بميزانيات مصرف لبنان والمصارف التجاريّة، التي يملك أرقامها وتفاصيلها مصرف لبنان. كان هذا التسرّع في تهميش الحاكم ودوره، خلال العمل على الخطّة، هو السبب الأساسي لتعثّر المفاوضات مع الصندوق في بداياتها. خصوصاً بعد أن ظهر التباين الكبير بين أرقام الحكومة وبين أرقام مصرف لبنان داخل جلسات التفاوض مع الصندوق. وهو ما فتح الباب بشكل واسع أمام تدخّل لجنة تقصّي الحقائق لمحاولة رأب هذا الصدع وتوحيد المقاربات اللبنانيّة في المفاوضات مع صندوق النقد. مع العلم أنّ وفد الصندوق نفسه، وبمعزل عن انسجامه مع الأرقام التي طرحتها خطّة الحكومة، اشترط توحيد الأرقام اللبنانيّة قبل الوصول إلى اتفاق نهائي حول المعالجات التي سيتم اعتمادها.

عمل برّي على إعطاء عمل لجنة تقصّي الحقائق كلّ الزخم والإجماع المطلوب، لفرض مقارباتها على مسار التفاوض

في كل الحالات، كان الفريق الإستشاري الذي عمل على خطّة الحكومة يتباهى من خلال تسريب تفاصيل بعض اللقاءات مع وفد صندوق النقد. تلك التي كانت تؤكّد تطابق أرقام وفد الصندوق مع أرقام الحكومة لا مع أرقام مصرف لبنان. وذلك في محاولة لتبخيس أرقام مصرف لبنان والتأكيد على مصداقيّة أرقام الحكومة. وعمليّاً، كانت هذه الخطوات من طرف الاستشاريين تؤكّد قلّة الخبرة والمراهقة في التعاطي مع الملفّ، إذ إنّها كانت توحي بعدم فهم المستشارين لموقع الحكومة التفاوضي في مواجهة وفد صندوق النقد، والذي يقتضي الدفع باتجاه حماية المصالح اللبنانيّة في مقابل أولويّات ومقاربات وفد الصندوق، وليس التباهي بتطابق مقاربات الحكومة مع مقاربات الصندوق.

في كلّ الحالات، سرعان ما دخل رئيس المجلس النيابي نبيه بري على الخطّ، عبر الدفع باتجاه إعادة النظر بحجم بالخسائر التي قدّرتها خطّة الحكومة، من خلال لجنة تقصّي الحقائق التي انبثقت عن لجنة المال والموازنة النيابيّة. وفي الوقت نفسه، وقف رئيس المجلس في مواجهة بعض الطروحات المتهوّرة التي دفع باتجاهها فريق الاستشاريين نفسه، والتي حاولت الإطاحة بحاكم مصرف لبنان للتخلّص من معارضته لبنود الخطّة الحكوميّة.

عمل برّي على إعطاء عمل لجنة تقصّي الحقائق كلّ الزخم والإجماع المطلوب، لفرض مقارباتها على مسار التفاوض والتخلّص من الخطّة الحكوميّة التي اعتبر كثيرون أنّها ستفضي إلى كارثة، بالنظر إلى تضخيمها حجم الخسائر إلى أقصى حدود، وهو ما كان سيعني تضخيم حجم كلفة التصحيح التي سيتفاهم عليها لبنان مع صندوق النقد. ومن الناحية العمليّة، قام بري بتوفير هذا الغطاء من خلال اجتماع بين الرؤساء الثلاثة، أكّد على دور اللجنة في توحيد الأرقام التي سيتمّ ترجمتها لاحقاً في المفاوضات مع صندوق النقد. ثم سعى إلى تعزيز الغطاء السياسي للجنة من خلال توفير إجماع الكتل النيابيّة حول الأرقام التي خلصت إليها.

في كلّ الحالات، بات من الواضح أنّ النتيجة التي خلصت إليها اللجنة من مقاربات وأرقام، ستمثّل رقماً صعباً يصعب تجاوزه. خصوصاً أنّ الحكومة لن تكون قادرة على السير في أيّ خطّة لن تتلاءم مع توجّهات المجلس النيابي، كونها ستحتاج إلى تمرير عشرات مشاريع القوانين في البرلمان لتنفيذ الخطّة. ولذلك، سيكون على الوفد اللبناني الذي يفاوض صندوق النقد تعديل الأرقام التي يبني على أساسها خطّة التفاوض، لتتناسب مع أرقام اللجنة. وهو الأمر الذي أخذ مكانه في المفاوضات منذ الأمس.

لكن بمعزل عن الأرقام، سيكمن التحدّي الفعلي في تعديل مقاربة الحكومة واستشارييها لملف التفاوض بأسره، بمعنى مواجهة وفد الصندوق بأولويات تستهدف حماية المصلحة اللبنانيّة أوّلاً، بدل تبنّي مقاربات الصندوق لأسباب تتعلّق بالنكايات والمناوشات المحليّة اللبنانيّة.

مواضيع ذات صلة

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…

استراتيجية متماسكة لضمان الاستقرار النّقديّ (2/2)

مع انتقالنا إلى بناء إطار موحّد لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، سنستعرض الإصلاحات الهيكلية التي تتطلّبها البيئة التنظيمية المجزّأة في لبنان. إنّ توحيد الجهود وتحسين…

الإصلاحات الماليّة الضروريّة للخروج من الخراب (1/2)

مع إقتراب لبنان من وقف إطلاق النار، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء إطار متين وفعّال للامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. تواجه البلاد لحظة محورية،…

لبنان “البريكس” ليس حلاً.. (2/2)

على الرغم من الفوائد المحتملة للشراكة مع بريكس، تواجه هذه المسارات عدداً من التحدّيات التي تستوجب دراسة معمّقة. من التحديات المالية إلى القيود السياسية، يجد…