لطالما قلنا، وقال كثيرون إنّ سدود لبنان تخزّن الأموال أكثر مما تخزّن المياه، وإنها سياسات “تنفيعية” للوزير وحاشيته أو “دعائية” بأفضل الأحوال. لكن اليوم يفتح موقع “أساس” تحقيقاً مفصّلاً حول هذه السدود من بوابتها المالية، في محاولةٍ لنوثّق بالمستندات الهدر المالي، الفساد والسرقات في سدود لبنان، ما أنجِز منها وما هو قيد الإنجاز.
فلفترة طويلة كانت السدود عبارة عن تنفيعات عشوائية يقوم بها الوزير (الفلاني) خدمةً للزعيم (العلاني). هكذا وفق خطط عشرية لم تبصر النور… إلى أن أصبحت السدود “استراتيجية وطنية” وضعها الوزير المهندس جبران باسيل، وبدأ العمل بها منذ تولّيه حقيبة الطاقة والمياه في العام 2012.
تضمّ الخطة الاستراتيجية (في الصورة المرفقة) إنشاء 29 سداً بكلفة مليار و975 مليون دولار (1.975.000.000 مليون دولار أميركي)، تُموّل إما عبر الدولة اللبنانية، أو بمشاركة القطاع الخاص، أو عبر قروض خارجية تُصرف بموجب قانون في مجلس النواب بناءً على اقتراح وزارة الطاقة. وجميع المشاريع تُموّل جزئياً محلياً مثل كلفة الاستملاك التي تقع على عاتق الدولة، وتُصرف من الموازنة العامة ومن اعتمادات وزارة الطاقة والمياه – قوانين البرامج.
تتوزع السدود الـ29 على مناطق لبنان كالتالي (10 سدود تؤمّن المياه لبيروت وجبل لبنان بكلفة 859 مليون دولار، و11 سداً في الشمال بكلفة 488 مليون دولار، و7 سدود في البقاع بكلفة 328 مليون دولار، وسدٌ واحدٌ في الجنوب بكلفة 300 مليون دولار). منها ما أُنجز، ومنها ما هو قيد التنفيذ. ويعتبر أهل الاختصاص هذه السدود مزراب هدر وفساد راكم الدين العام وعجز الخزينة، على اعتبار أنّ معظم ما أُنجِز منها أثبت فشله أو عدم نجاحه على الأقل.
لفترة طويلة كانت السدود عبارة عن تنفيعات عشوائية يقوم بها الوزير (الفلاني) خدمةً للزعيم (العلاني). هكذا وفق خطط عشرية لم تبصر النور… إلى أن أصبحت السدود “استراتيجية وطنية” وضعها الوزير المهندس جبران باسيل، وبدأ العمل بها منذ تولّيه حقيبة الطاقة والمياه في العام 2012
التشتّت مالي
بمساعدة جنود مجهولين، حصل موقع “أساس” على مجموعة من العقود الرسمية غير المنشورة (في الصور المرفقة) توضّح التشتّت المالي في السياسات التمويلية للسدود. وتوثّق هذه العقود تجاوز كلفة الاعتماد الأساسي المرصود لكلّ سدّ، وتُظهِر حالة من تعدّدية العقود التابعة للسدّ الواحد، تشتّت الكلفة وترفعها في الوقت نفسه تحت عناوين مختلفة، منها: دراسة الجدوى التمهيدية، التقييم الهيدرولوجي، الأكلاف التي يتكبّدها المتعهّد خلال فترة تعليق العمل. وعلى سبيل المثال لا الحصر، كلّف عقد مماثل في سدّ القيسماني أكثر من نصف مليون دولار (635.952( ألف دولار لشركة معوّض بتاريخ 26 أيلول 2019، وأكثر من 8 آلاف (8.513 دولار) في التاريخ نفسه وتحت العنوان نفسه، لكن برقم عقد مختلف. وهو السدّ الذي يبين العقد أدناه المنشور في الجريدة الرسمية بتاريخ 25/8/2011 (مرفق بصيغة pdf) “إجازة للحكومة إبرام اتفاقية قرض بين الجمهورية اللبنانية والصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية لإنشاء مشروع سدّ القيسماني لمياه الشرب بقيمة 5 مليون و500 ألف دولار ( 5.500.500 دولار أميركي).
إقرأ أيضاً: بيان البنك الدولي يكذّب باسيل: هكذا سقط سدّ بسري
ومن العناوين أيضاً التي تحملها هذه العقود، إعداد الدراسات التفصيلية وملف التلزيم. وكلّفت هذه الدراسات في سدّ بقعاتا أكثر من 200 ألف دولار (202.719 دولار ( لصالح الاستشاري جيكوم (المهندس أنطوان سلامة وشركاه ش.م.م.) وفي عنوان آخر، نجد عقداً باسم الدراسة والإشراف على المشروع كما هو الحال في سدّ الحبش بكلفة 240 ألف دولار (240.000 دولار) بتاريخ 27 أيار 2003، وعنوان مهام تحديث واستكمال وتدقيق في الدراسة العائدة للمشروع، وكلّف هذا النوع من العقود في مشروع سدّ بحيرة بريصا أكثر من مئة ألف دولار (110.250 دولار) في 15 آذار 2001. وهو السدّ الذي كلفت إحدى عقود إنشائه بتاريخ 6 حزيران 2003 أكثر من 17 مليون دولار (17.116.851 دولار) وهو كلف بالحقيقة 27 مليون دولار ومرصود له في الخطة 3 مليون دولار فقط. وكلّف الإشراف على أعماله بموجب عقد آخر أكثر من نصف مليون دولار (572.167 دولار).
[PHOTO]
فارق الأكلاف
وفي بعض العقود الأخرى غير المنشورة أيضاً (مرفقة نسخ عنها في الصور)، نجد فارق الكلفة بين الاعتماد الأساسي لمشروع السدّ وبين المجموع النهائي. إذ نرى زيادة التكلفة تحت عنوان العقد الملحق، وجدول المقارنة. وهي الكلفة التي ترتفع بحسب المستندات أدناه في سدّ بلعا من 34 مليون دولار (34.105.320 دولار) في الاعتماد الأساسي إلى أكثر من 50 مليون (50.117.226 دولار) في المجموع وكلفته في الخطة الاستراتيجية لا تتجاوز 26 مليون، ومن 55 مليون دولار ( 55.347.77 دولار) في الاعتماد الأساسي إلى أكثر من 74 مليون دولار (74.579.245 دولار) في المجموع في سدّ المسيلحة والمرصود له في الخطة 55 مليون دولار فقط، ومن 59 مليون دولار (59.039.771 دولار) في الاعتماد الأساسي إلى أكثر من 88 مليون دولار ( 88.860.258 دولار) في المجموع النهائي في عقد مشروع سدّ بقعاتا الذي لا تتجاوز كلفته بحسب الخطة 69 مليون دولار.
وفي سدّ جنّة، نرى تفاوت التكاليف بين الاعتماد الأول بكلفة تتجاوز المئة مليون دولار (103.202.944 دولار) شاملة ضريبة القيمة المضافة بعد التعديل رقم 1 تجاوزت الكلفة 200 مليون دولار، (253.935.574 دولار) وأكثر من 299 مليون دولار (255.674.943 دولار) بعد التعديل رقم 2. (مرفق صور مفصلة عن قيمة الإشراف على الأشغال عن excel).
يفسّر مدير عام الاستثمار السابق في وزارة الطاقة السابق غسان بيضون تشتّت العقود وارتفاع الأكلاف، ويؤكّد أنّ مساهمة هذه المشاريع بمراكمة الدين العام والعجز لا يمكن تحديدها بسهولة، نظراً لتشتّت المعلومات اللازمة بين المؤسسات والجهات المعنيّة بالتلزيم وتأمين التمويل. أما التكلفة الإضافية التي تترتّب، فيفسّرها بيضون في حديثه لـ”أساس” بالأشغال الإضافية أو التوسّع في الاستملاكات، والتي يمكن بسهولة الحصول على موافقة مجلس الوزراء على زيادتها، وتؤدّي معاً إلى رفع التكلفة الأساسية للمشروع بنسب مرتفعة. ويضاف إلى الأكلاف، إمكانية إلزام المتعهّدين بمقاولين “من الباطن” أو بأصحاب مكاتب استشارية “يختارهم الوزير”، كما هو حال سدّي بسري وجنّة. وكذلك الأمر بالنسبة لتحميل أعباء وتعويضات ورواتب مستشاري الوزير الكثر على حساب المشاريع، لا سيما عندما يكون التمويل خارجياً. بالإضافة إلى عدد عقود المكاتب الاستشارية لوضع الدراسات، ووضع دفاتر الشروط، والإشراف على التنفيذ والاستلام. ويشكّك بيضون هنا بالتكلفة العالية لهذه الدراسات، وجدّية عملها، وإشرافها، ومدى مسؤوليتها عن النتائج السلبية، والخلافات التي يمكن أن تنشأ مع المتعهّدين. وتؤدي في كثير من الحالات إلى مصالحات ومطالبات إضافية دون البحث عن المسؤولية عنها، أو إلى دعاوى تحكيمية ما يكبّد الدولة أعباءً مالية كبيرة.
في الحلقة المقبلة نسلّط الضوء على فشل هذه السدود، سدّاً تلو الآخر، وأسباب التمسّك بها رغم الفشل، المثبت لبعضها بالتقارير العلمية الأجنبية وآراء أهل الاختصاص.