بالعربية: صعود الحساسية الموسيقية لهاروكي موراكامي في “مقتل الكومنداتور”

مدة القراءة 6 د


نحن قاب قوسين أو أدنى من صدور النسخة العربية لرواية هاروكي موراكامي “مقتل الكومنداتور” عن دار الآداب-بيروت، في جزئها الثاني بعنوان “مجاز يتحوّل”، الذي نقلته الى العربية ميسرة عفيفي، بعد صدور الجزء الأول، مطلع هذه السنة بعنوان “فكرة تظهر”.

الكاتب الياباني الذي ترجمت أعماله لأكثر من خمسين لغة، بينما هو يتقدّم بثبات الصفوف الأمامية للأدب العالمي، كثيرًا ما تجاهل سؤال تحوّل منذ سنوات إلى كتاب عنوانه “لماذا هاروكي موراكامي لم يفز بجائزة أكوتاغاوا (اليابانية)؟”. لكن فرادته المربكة في رسم شخصيات كافكاوية الطابع، تخوض أحداثًاً غريبة، بخواتيم صادمة، وغالباً ما تكون خرافية لكن مستلهمة من الواقع، هي ما جعلت الأصداء تترقّب فوزه العاجل أو الآجل بجائزة نوبل الّتي لم يسع لها ولا للتحكيم في غيرها، وهو موقف لا يناقض شخصيته الخجولة والتي اعتزلت العالم الأدبي لأجل الأدب نفسه أي لإنتاجه. ففي إطلالة إعلامية نادرة له في مجلة Monkey Business، يقول: “سيعتريني الخوف. أنا الأديب الذي يتمتع بموقع صلب، في تقرير مصير أدباء لا يزالون في أول شبابهم، من خلال رؤيتي المنحازة للعالم”.

إقرأ أيضاً: اسكندر نجار يهدي “تاج الشيطان” إلى ضحايا كورونا

في المقابل، عام 2015، تمخّض صمته المديد طوال 35 سنة من الرهبنة الأدبية، عن تركة قيّمة لناشئة الأدب وأصحاب المحاولات، وطبعًا لمن أرهقهم السؤال حول أسرار موراكامي، جاءت في كتاب بعنوان “ممتهن الروايات”، حيث يكشف كواليس تجربته بأسلوب شائق بمستوى ذلك الذي يصنع رواياته. فضلاً عن جسارة حصرية هنا في تحرير “الأنا”، التي جعلت الكتاب أقرب الى بوح نادر، عفوي وبليغ معًاً، ولذلك فهو ملهم.

 مؤسف أنّ القارىء العربي حُرم ترجمة هذا الكتاب، فيما كادت طبعته الأولى تنفد من مكتبة كينوكونيا الرئيسة في طوكيو قبل أن يحط على رفوفها، حين تهافت القراء لحجز 90% من النسخ. لذا يبدو تناوله مفيداً على ضوء تجربة عملية للكاتب نفسه. وروايته الأخيرة “مقتل الكومنداتور”، بجزأيها، مجال ممتع لهذه التجربة.

مؤسف أنّ القارىء العربي حُرم ترجمة هذا الكتاب، فيما كادت طبعته الأولى تنفد من مكتبة كينوكونيا الرئيسة في طوكيو قبل أن يحط على رفوفها

تدور الأحداث حول لوحة بعنوان “مقتل قائد الفرسان” التي خبّأها في منزله ولأسباب مجهولة رسام ياباني يدعى أمادا توموهيكو، يعيش بعيدًاً في دار للمسنين منذ أصيب بالخرف. اللوحة اكتشفها فنان شاب يسكن منزل توموهيكو، وتصوّر مشهداً دموياً من مقطوعة “دون جيوفاني” لموزار، بأسلوب “نيهونغا” التقليدي. الرسام الشاب يصبح مهووسّا بشخصية من اللوحة غريبة الملامح.

سواء في “مقتل الكومنداتور” أو سواها من الروايات، الهوس والاختلالات الداخلية سمات ملازمة لشخصيات هاروكي، الذين عادة ما يفضّلون الانعزال، وينصاعون إلى غرائبية العالم أو يخترعونها. لكن الصوت في هذا الكتاب “وزّين” في صنع الغرائبية. فتارة يُكتم صوت الزيز الملحّ في الخريف فيصبح غير مسموع، وتارة يسمع البطل رنين جرس آتٍ من بعيد، ثم يشعر أنّ الصوت صادر من مقبرة على بعد خطوات منه.

سواء في “مقتل الكومنداتور” أو سواها من الروايات، الهوس والاختلالات الداخلية سمات ملازمة لشخصيات هاروكي

لأيّ نص إيقاع ولكن لنصّ “الكومنداتور” موسيقى تنساب دون انقطاع من الكلام ومعه. فالسمعيات لدى موراكامي، مؤلف “اسمع أغنية الريح” (روايته الأولى الفائزة بجائزة “الكتاب الجدد”)، و”رقص رقص رقص”، تنسحب على العالم الروائي لا الموضوع فقط. أمر يؤكده موراكامي في “ممتهن الروايات”، بحديثه عن حداثة هادئة أمضاها بعيدًاً عن ضوضاء الملاهي الشبابية، يقول: “كانت القراءة والموسيقى أعظم ملذاتي، حتى لو كنت منشغلاً ومنهكًاً”. حبّه للموسيقى دفعه مع زوجته التي اقترن بها في سن صغيرة، لأن يكسبا معيشتهما من بار أداراه في ضواحي طوكيو، ثم أجبرا على الانتقال لحي مركزي. في البار الأول صدحت موسيقى الجاز وفي الثاني معزوفات “لايف” من البيانو. يكشف الكتاب أن الموسيقى هي أيضًاً خلفية مرافقة لكتابة روايات “على طاولة المطبخ”. وفي فصل “حول الفرادة”، تحدّث عن انتقال الأنماط الأدبية من موضع الصدمة التي تجني الاستهجان إلى نمط مألوف يصبح كلاسيكيًاً، مستعينًاً بموسيقى “البيتلز” لتجسيد فكرته.

إن انسلال الأصوات من عالم موراكامي وإعادة إنتاجه على الورق، شخّصه خلال القرن الماضي الناقد الفرنسي جان بيار ريشار في كتابه “الأدب والحساسية” في تجربة حواسية، تترجمها السمات الخاصة بالصور الأدبية المتعلّقة بكلّ كاتب. لدى موراكامي، يشكّل الصّوت “اللغة التحتية” التي تصنع العالم الظاهر والمضمر لـ”مقتل الكومنداتور”، وهو – أي موراكامي – تصدّى لتسطيح هذه العلاقة بين الموسيقى والكلمة، في مقابلة مع مجلة النيوركر “The New Yorker” الثقافية، حيث أشار الى أنّ تقديره العالي لأوبرا “دون جيوفاني” لم يُلزم بطل الرواية بتفضيل الموسيقي الكلاسيكية. إنها شخصية يبنيها بدون توقّعات، وعلاقتها بالموسيقى حرّة لأنّ تطوّرها حرّ. ودور موراكامي، وفقاً له في المقابلة ذاتها، ينطوي على رصد هذا التطوّر ثم تدوينه. يستطرد الكاتب: “أستمع إلى الموسيقى أثناء الكتابة. لذا تأتي بشكل طبيعي في كتاباتي. لا أفكر كثيرًاً في نوع الموسيقى، لكن الموسيقى نوع من الطعام بالنسبة لي. تمنحني الطاقة للكتابة (…). إنها جيدة لصحتي”.

إلى أبواب عديدة فتحها على إلهام كتابته الأولى ألحقها بمعنى الفرادة، وولادة الفكرة، وصناعة الشخصيات، وتحديد القارىء (أو عدمه – لكم لذة الاكتشاف)، يكشف “ممتهن الروايات” أن  موراكامي يخضع مسودة مؤلفاته – بما فيها إذًا “مقتل الكومانتادور” لنظرة زوجته، وهي العنصر النسائي الذي يجب عدم إغفاله في ضبط جودة النص. ويستدرّ، في مقال آخر، تخيلنا له في ساعات بعد الظهيرة التي يخصصها لتمرين الركض اليومي، يتنقل جريًا وبنسق نابض، في عملية سرده المتنامية. يتقدّم لفكّ شيفرة “دون جيوفاني” المعقدة والمكثفة، في أسلوب هو الأكثر بعدًاً عن التعقيد والتكثيف. إنّه حوار خفيف وبسيط في أسلوبه، إنما عالٍ في مستواه. تأمّل متواصل، في دور ضابط الإيقاع لموقع ووقع الموسيقى في رتابة الوجود الإنساني وهشاشته، والذي يحاول مقاومة تهالكه بالجمال.

مواضيع ذات صلة

ياسر عرفات… عبقرية الحضور في الحياة والموت

كأنه لا يزال حيّاً، هو هكذا في حواراتنا التي لا تنقطع حول كل ما يجري في حياتنا، ولا حوار من ملايين الحوارات التي تجري على…

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…