قد يعتقد البعض أنّ ادارة دونالد ترامب التي تستعد لتوضيب أوراقها وأغراضها تمهيداً لدخول فريق جو بايدن، ولو بعد أسابيع بانتظار انتهاء المنازلة القضائية الحاسمة للجدل الانتخابي، سارعت إلى إدراج جبران باسيل على لوائح العقوبات الأميركية قبل مغادرة البيت الأبيض وباقي المواقع الأساسية. سيناريو مؤامراتي يعشق اللبنانيون سرده مهما كانت مكانة الأبطال وعظمتهم.
ولكن مهلاً، إنّها الولايات المتحدة التي تسيّرها منظومة مصالح استراتيجية، تقودها الدولة العميقة. وإدارة البيت الأبيض واحدة من مكوّنات هذه الدولة، لكن لا تختصرها. بمعنى أنّه مهما تبدّلت الوجوه وتغيّرت لهجة التعاطي، فثمّة اعتبارات وأجندات تلحظ مصالح الدولة العظمى، لا يمكن لأيّ إدارة أن تتجاهلها.
قبل أسابيع، وحتى قبل أشهر، وُضع جبران باسيل في جو إمكانية إدراجه على اللوائح السوداء، وقد حُدّدت المهلة الزمنية بين شهري تشرين الأول وتشرين الثاني. أكثر من مرجع سياسي تبلّغ هذا الأمر حتى إنّ رئيس التيار الوطني الحرّ أسرّ بهذا الاحتمال القوي أمام الحلقة الضيقة من المقرّبين منه. وهناك من يقول إنّ تأكيد باسيل أنّه مستعدّ لمواجهة عاصفة العقوبات، ما كان إلّا “طبق مقبّلات” لما ينتظره، وهو المتيقن أنّها ستحصل عاجلاً أم آجلاً، فحاول استثمارها باكراً.
الولايات المتحدة التي تسيّرها منظومة مصالح استراتيجية، تقودها الدولة العميقة. وإدارة البيت الأبيض واحدة من مكوّنات هذه الدولة، لكن لا تختصرها
فعلياً، لا يمكن التكهّن بحقيقة المشاورات التي كانت تجري طوال أسابيع بين باسيل ومسؤولين أميركيين، ولو أنّ الخلاف الذي خرج للعلن بين قصر بعبدا والضاحية الجنوبية حول ترسيم الحدود، قد يكون أحد تجلّيات تلك المفاوضات العابرة للحدود، والتي يبدو أنّها انتهت بوضع مسؤول لبناني رفيع المستوى على القائمة الأميركية، وهي خطوة أولى من نوعها تحمل الكثير من الدلالات والتداعيات، تتجاوز بطبيعة الحال محطة إدراج الوزيرين السابقين يوسف فنيانوس وعلي حسن خليل على اللائحة الأميركية، وذلك ربطاً بموقع باسيل ومكانته السياسية.
في الواقع، لا يمكن لقرار بهذا الحجم أن يمرّ مرور الكرام، لا على التيار الوطني الحرّ سواء في الداخل أو في الاغتراب، ولا على المسيحيين بشكل عام. أن يُدرج رئيس حزب يفترض أنّه “وريث الأمر الواقع” لزعامة انفلشت على مساحة الوطن، ويفترض أنّ العلاقة مع الغرب وتحديداً مع الولايات المتحدة تشكّل واحداً من مفاتيحها إلى الخارج، فهذا ليس تفصيلاً بسيطاً. فحلم الرئاسة تحوّل “كابوساً”، وكلّ ما قام به باسيل خلال سنوات العهد الأربعة، ليفرض نفسه سلفاً للرئيس ميشال عون، سيذهب مع الريح، بشطبة قلم أميركية.
كما أنّ البيئة العونية، والمسيحية بشكل عام، لا تحتمل أن تكون بحالة خصومة أو كراهية مع المجتمع الدولي وتحديداً الأميركي. وسيكون من الصعب على كوادر التيار في الاغتراب وتحديداً في الولايات المتحدة التحرّك، بعدما صار رئيسهم من المدرجين على لوائح المعاقبين. وستكون الخشية من ضغوطات سياسية، عاملاً مؤثراً في تحرّكات هؤلاء. كما أنّ أصحاب المصالح والرأسماليين الذي عمل باسيل على استقطابهم خلال السنوات الأخيرة ليصيروا عصب حزبه، ستجتاحهم المخاوف من طرطوشة عقوبات قد تأتيهم من واشنطن، ما قد يؤدّي إلى ابتعادهم رويداً عن “المقابر لكي لا يروا منامات وحشة”.
لا يمكن لقرار بهذا الحجم أن يمرّ مرور الكرام، لا على التيار الوطني الحرّ سواء في الداخل أو في الاغتراب، ولا على المسيحيين بشكل عام
بالنتيجة، سيكون التيار الوطني الحرّ أمام تحدٍّ كبير لمواجهة هذا الاستحقاق في المرحلة المقبلة ولو أنّ المعلومات تؤكد أنّ علاقة باسيل بـ”حزب الله” ليست وحدها السبب الذي دفع بالإدارة الأميركية إلى اتخاذ هذا القرار، وإنما تحتلّ الأخطاء المرتكبة من الجانب اللبناني بحقّ العلاقة الثنائية جانباً مهماً من الأسباب والحيثيات.
وسيكون تفاهم مار مخايل أول المتضرّرين من هذا القرار، لأنّ حزب الله بدوره سيكون مأزوماً في كيفية التعاطي مع الشارع المسيحي. وقد يكون محكوماً بالبحث عن خيارات بديلة تحصّن بيئته الحاضنة.
إقرأ أيضاً: وول ستريت جورنال: العقوبات على باسيل تحرّك مساعي تشكيل الحكومة
أما أولى المتأثّرين بهذا القرار، فهي حكماً حكومة سعد الحريري. ويجزم بعض المتابعين أنّ عدداً من المسؤولين اللبنانيين كانوا يترقّبون منذ أيام هذا القرار، وقد يكون هو السبب وراء تعليق المشاورات الحكومية.
أما من جانب قصر بعبدا، فقد بدأ العمل على كيفية التعاطي مع القرار فيما الآخرون يفكّرون في كيفية استثماره على الرقعة الحكومية. لكنّ الأكيد أنه لا مصلحة لأيّ من الفريقين في المماطلة أكثر. فالأضرار كبيرة وكثيرة، ولن تُعفي أحداً. أيام قليلة، ويستعيد الحراك الحكومي زخمه. فالعهد برمّته بات على المحكّ.