باسيل في طرابلس: “حُلم” البترون… وظلال “عداوة” قديمة

مدة القراءة 7 د


حرص النائب فيصل كرامي في أكثر من إطلالة إعلامية إبّان الانتخابات النيابية الأخيرة، على التأكيد على كونه لا يدّعي “احتكار التمثيل الطرابلسي، لكنّه في المقابل لا يمكن لأحد إلغاؤه، ويشكّل جزءاً من التنوّع السياسي في عاصمة الشمال”.

يعبّر الموقف الصادر عن ابن البيت الكراميّ، الذي ارتبطت به الزعامة الطرابلسية منذ ما قبل نشأة لبنان الكبير، عن التوازن الدقيق بين خصوصية المدينة وتنوّعها وانفتاحها على مختلف التيارات الفكرية والسياسية في آن معاً، وعن الاستمرار بما كان بدأ به الرئيس الراحل عمر كرامي من مواجهة كلّ محاولات إلغائه تمهيداً لتذويب الخصوصية الطرابلسية، ولا سيّما عقب اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري عام 2005، وموجة التعاطف الهائلة التي عصفت بالحواضر السنّية.

حرص النائب فيصل كرامي في أكثر من إطلالة إعلامية إبّان الانتخابات النيابية الأخيرة، على التأكيد على كونه لا يدّعي “احتكار التمثيل الطرابلسي، لكنّه في المقابل لا يمكن لأحد إلغاؤه، ويشكّل جزءاً من التنوّع السياسي في عاصمة الشمال”

المقاطعة المنعزلة

على وقع التنافس بين الخصوصية والانفتاح، ظهرت نزعة نحو التطرّف في الخصوصية، نمت وكبرت بفضل القوانين الانتخابية التي تُعلي من شأن “المناطقية” على حساب “الوطنية”، وتأثّرت بالمناخات المشابهة السائدة في غير منطقة وبشكل أشدّ.

فالخصوصية المناطقية دفعت إلى نشوء مناخ سياسي عنوانه “القرار الطرابلسي” الذي تصدّر الخطابات السياسية واللوائح الانتخابية البلدية والنيابية. فالرئيس ميقاتي حينما شكّل عام 2018 “لائحة العزم” قال إنّها “طرابلسيّة أصيلة” و”طرابلسيّة الصنع”، حاصراً معركته في “استرداد قرار المدينة ومواجهة القرار السياسي المركزي”. في حين أنّ النائب أشرف ريفي حينما شكّل لائحة في الانتخابات البلدية في مواجهة القوى السياسية المؤتلفة منحها اسم “قرار طرابلس”. وعلى هذا المنوال نسج كثر.

أفضت هذه النزعة إلى حصول نقاشات حول “كم وزيراً وكم مديراً عامّاً لدينا، وكم موظّفاً”، و”لماذا أغلبية الموظّفين في هذه الدائرة الحكومية من خارج المدينة” وغير ذلك. وهذا ما استغلّه بعض السياسيين للضغط من أجل رفض بعض التعيينات أو لدعم تعيين شخص ما، أو لتقويض فرص أيّ مرشّح “جَلَب” في الانتخابات النيابية.

بالنتيجة صارت هناك ثقافة سائدة تضع حدوداً جغرافيّة نظريّة تجعل من نفق شكّا الخطّ الفاصل بين لبنانين لا يشبه أحدهما الآخر. والحال أنّها ليست طرابلسية المنشأ، إنّما تأثّرت بها عاصمة الشمال، ولا سيما مع ارتفاع الشعور بـ”المظلومية السنّية”، من خلال مطاردة العشرات من شبّانها بتهمة الإرهاب، وإسقاطها من الاهتمام الإعلامي إلا في ما يتعلّق بالأمن المتفلّت، وغير ذلك من التفاصيل التي تسهم في ترسيخ هذه الثقافة أكثر، وتجعلها أقرب إلى المقاطعة منها إلى الخصوصيّة.

ما سبق يشكّل الأساس لفهم الملابسات التي أحاطت بزيارة رئيس التيار الوطني الحر لمدينة طرابلس الأحد الفائت. فالأمر غير قاصر على مشاعر نفور تبلغ حدّ العدائية، بل يشمل أيضاً نزعة انغلاق مغالية في مناطقيّتها. ذلك أنّ باسيل ليس وحده من تعرّض لمثل هذه المواقف الإشكالية، بل كذلك بعض الوزراء، إنّما على نطاق أضيق بكثير يغلب عليه الطابع الفردي، ولم يأخذ أبعاداً مشابهة على شبكات التواصل، انطلاقاً من كون باسيل قطباً سياسياً يتّصف بالإشكالية في طروحاته وخطابه السياسي.

على وقع التنافس بين الخصوصية والانفتاح، ظهرت نزعة نحو التطرّف في الخصوصية، نمت وكبرت بفضل القوانين الانتخابية التي تُعلي من شأن “المناطقية” على حساب “الوطنية”، وتأثّرت بالمناخات المشابهة السائدة في غير منطقة وبشكل أشدّ

أجندة باسيل الطرابلسيّة

الهدف من الزيارة، وهو افتتاح شارع “مينو” بمدينة الميناء بعد إعادة ترميمه، كان يجب أن يشكّل حافزاً من أجل استقبال من نوع آخر في ظلّ أنّ الإنماء في طرابلس شبيه بماكينة التقطير، ولا سيما أنّ ثمّة الكثير من الأحاديث الرائجة في الشارع الطرابلسي عن كيفية تحويل باسيل لمدينة البترون إلى قبلة سياحية، يؤمّها أبناء طرابلس كما غيرهم، مغتربين ومقيمين، ويتمنّون أن تغدو مدينتهم مثلها.

لذا كان المشهد الاعتراضي على زيارة باسيل خجولاً بالمقارنة مع الزيارات السابقة، وقاصراً على بعض الذين يدّعون الانتماء إلى “ثورة 17 تشرين”، مع بعض المتأثّرين بالدعاية المسبقة للزيارة.

بمعزل عن النهج السياسي لباسيل وخطابه وطموحاته التي لا حدّ لها، إلا أنّه لا يمكن إلا الثناء على مبادرته. وهذا ما بدا واضحاً خلال زيارته لشخصيات، بعضها على النقيض من تموضعه السياسي. وكذلك من تعليقات بعض النخب الطرابلسية التي اعتبرت أنّ الأجواء التي حاولت تعكير صفو الزيارة، تسيء إلى طرابلس ولا تفيدها، ويقف خلفها قلّة محدودة جداً.

في هذا الإطار، فإنّ طرابلس غير غائبة عن أجندة أعمال رئيس التيار الوطني الحر الذي يتميّز بنشاط هائل. فهو يواظب على الانفتاح على بعض المفاتيح الانتخابية المؤثّرة، ويلتقي بهم بين الحين والآخر. علاوة على معلومات تشير إلى أنّ لديه مبادرة تنموية أخرى في عمق طرابلس القديمة بالشراكة مع النائب السابق محمد الصفدي.

ربّما لو كان خطابه السياسي لا يتّكئ على الاستفزاز الدائم، لكان الوضع مغايراً تماماً بالنسبة لحضوره في طرابلس، ولا سيما أنّ لديه فيها مناصرين ومستفيدين، وسبق له القيام بحملة انتخابية واسعة فيها عام 2005، قادته إلى زيارة “المنشية” بوسط المدينة القديم لإجراء مناظرة تلفزيونية حسب القانون الانتخابي السائد حينها.

التوازن بين الخصوصيّة والانفتاح

مخاطر النزعة الانغلاقية يعيها السياسيون الطرابلسيون ويعملون على حصرها وعدم توسّعها من خلال التوازن بين الخصوصية والانفتاح. وأكثر ما يتبدّى هذا التوازن الدقيق لدى النائب فيصل كرامي الذي يمضي أغلب يوميّاته ونشاطه السياسي في عاصمة الشمال. إذ استقبل باسيل دون أن يستشعر أيّ خطر من زيارته التنموية. وفي الوقت نفسه، عمل على استيعاب الغضب الشعبي على ردّة الفعل الهمجية لعنصر أمن الدولة ضدّ مواطن طرابلسي كلّ ما فعله أنّه قال “لا أهلاً ولا سهلاً بباسيل”، من خلال الإيعاز إلى واحد من مفاتيحه الانتخابية بمعالجته في مستشفى الإسلامي الخيري، رامياً بذلك الى تطويق الحادثة بالكامل.

إقرأ أيضاً: الفسطاطان السنّيّان: “جنّة” حماس أو “نار” إسرائيل

لقد توقّفت بعض المصادر السياسية الطرابلسية عند بيان أمن الدولة الذي صدر بعد يومين من الحادثة و”المقتضب أكثر من اللازم والحافل بالمغالطات. إذ تحدّث عن موكب رسمي، فما هو المقصود بمصطلح “رسمي”؟ فهل كانت الزيارة لوزير أثناء تأديته لمهامّه الوزارية؟”. تضيف المصادر: “ثمّ قال إنّ أحد المواطنين حاول رشقه، فاضطرّ أحد العناصر المولجة حماية الموكب إلى التصدّي له. فيما تُظهر الفيديوهات التي انتشرت بكثافة أنّ المواطن المقصود لم يكن يحمل بيديه شيئاً، وأنّ العنصر إيّاه هو من بادر إلى الاعتداء العنيف الخارج عن القانون وعن الآداب والقيم”.

تختم المصادر بالتساؤل عن “الإجراءات اللازمة للمعالجة وفقاً للقوانين” حسب بيان أمن الدولة: “هل تكون مثلاً شبيهة بما حصل مع الممثّل المسرحي زياد عيتاني حينما جرى تكريم الضابط الذي أشرف على تعذيبه، أم ما حصل مع السوري بشار عبد السعود الذي قضى تحت التعذيب؟ فربّما يُتّهم المواطن بأنّه كان يتزعّم خلية إرهابية ويريد اغتيال رئيس التيار الوطني الحر”.

بين الخصوصية الطرابلسية التي لا يمكن محوها أو تذويبها، وبين التحوّل إلى مقاطعة مقفلة يحتاج الداخل إليها إلى جواز مرور مزاجيّ، ثمّة خيط رفيع عبر عليه باسيل في زيارته الأخيرة. علّ هذا الخيط يقود الأخير نحو اقتحام ميدان المنافسة السياسية في طرابلس بشكل مباشر لا موارب، فيكون الحكم عندها للصندوق وحده.

مواضيع ذات صلة

هل يستبدِل برّي حليفه فرنجيّة بأزعور؟

يدور الاستحقاق الرئاسي في حلقة مُفرغة، أحد أبرز عناصر كَسرِها التوصّل داخلياً إلى تسوية تَمنع الثنائي الشيعي من أن يكون في جلسة التاسع من كانون…

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…