انحسار الإسلاميّين واستمرار “الإسلاموفوبيا”

مدة القراءة 6 د


يبدو أنّ “الشباب” الحاكمين في ولاية إيمانويل ماكرون الثانية يعانون من “الإسلاموفوبيا”. هذا ما يظهر في سياسات الحكومة وقراراتها. ويبدو أنّه بدأ ينعكس على المناطق والأقضية والمدن.

قرارات “إسلاموفوبيّة” استباقيّة

منذ 7 أكتوبر اتّخذت حكومة إليزابيت بورن بعض القرارات والإجراءات الاستباقية التي أظهرت أنّ بعض أعضاءها يعاني من “الإسلاموفوبيا”. كما صدرت بعض التصريحات التي تشير إلى ذلك. على سبيل المثال:

– إعلان وزير الداخليّة في 7 أكتوبر عن تدابير أمنيّة مشدّدة في أماكن تجمّع اليهود ومؤسّساتهم. إعلان افترض أنّها ستتعرّض لهجمات من قبل مسلمين.

– حجب التراخيص عن التظاهرات الداعمة للقضية الفلسطينيّة تحاشياً لأعمال شغب، بحسب وزير الداخليّة.

– نشر الوزارة لِما سمّته “مظاهر معادية للسامية” بلغت 1,600 بحسب آخر إحصاء لها! رقم أثار حفيظة الإمام الكبير في باريس الذي شكّك في هذه الأرقام ودعا وزير الداخليّة إلى إعطاء تفاصيل.

– سبق ذلك قرار وزير التربية منع ارتداء “العباءة الإسلاميّة” في المدارس باعتبارها رمزاً دينياً!

يبدو أنّ “الشباب” الحاكمين في ولاية إيمانويل ماكرون الثانية يعانون من “الإسلاموفوبيا”. هذا ما يظهر في سياسات الحكومة وقراراتها. ويبدو أنّه بدأ ينعكس على المناطق والأقضية والمدن

إعلام يغذّي “الإسلاموفوبيا”

بدوره يلعب الإعلام الفرنسيّ، بغالبيّته، دوراً سيّئاً للغاية في تغذية “الإسلاموفوبيا” في المجتمع الفرنسيّ بانحيازه الفاضح لإسرائيل. فهو يركّز على الإسرائيليين الذين سقطوا في هجوم حماس ويُشكّك في رقم الـ 16,000 فلسطيني الذين سقطوا في غزّة. تبنّى السَردية الإسرائيليّة بقطع حماس لرؤوس الأطفال (التي ظهرت أنّها كذبة) وتغافل عن قتل إسرائيل لـ 5,000 طفل فلسطيني، وعن مئات آلاف الأطفال الفلسطينيين الذين سُرقت منهم طفولتهم ويعانون التهجير والجوع والعطش والبرد. شدّد على إدانة هجوم حماس على منطقة غلاف غزّة، وتغاضى عن اقتحام القوات الإسرائيليّة يوميّاً للمدن والقرى الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة. ركّز على الرهائن الإسرائيليين لدى حماس، ولم يأتِ على ذكر الأطفال والنساء الفلسطينيين في السجون الإسرائيليّة. وبرّر لإسرائيل تطويق المستشفيات وقصفها واقتحامها بتبنّي سَرديّة إسرئيل عن اكتشاف نفق تحت مستشفى الشفاء. وهناك أمثلة أخرى.

إلغاء اتفاقيّة مع مدرسة إسلاميّة

آخر “عوارض الإسلاموفوبيا” الفرنسيّة ظهر في تصويت “اللجنة الاستشارية للمدارس الخاصّة” يوم الإثنين 27 تشرين الثاني لإلغاء الاتفاقية بين الدولة الفرنسيّة و”ليسيه ابن الرشد” في منطقة لِيل في شمال البلاد التي تعود إلى عام 2008. الاتّهامات التي سيقت ضدّ إدارة المدرسة، كما أوردتها صحيفة “لو فيغارو” الفرنسيّة، عدم الشفافية في صرف هبة ماليّة (950 ألف يورو) حصلت عليها المدرسة من دولة قطر في عام 2014، واعتماد أساتذة الدين على مراجع إسلاميّة تدعو إلى إعدام المرتدّ عن الإسلام وإلى التمييز الجندري بين المرأة والرجل.

انحسار التطرّف الإسلاميّ

في عام 2000 نشر جِيل كيبيل الفرنسي المتخصّص في جماعة الإخوان المسلمين كتاباً بعنوان: “الجهاد: انتشار وانحسار التطرّف الإسلاميّ” (Jihad, expansion et déclin de l’islamisme).  بعد عام دمّر تنظيم القاعدة بُرجَي التجارة العالميّة في نيويورك. وانتشرت خلاياه في العديد من دول المنطقة وفي إفريقيا. هاجمت عناصره دولاً عربيّة وغربيّة. بعدها ظهر تنظيم داعش. وهو ما أكّد فشل نظرية جِيل كيبيل في ذاك الوقت عن “انحسار التطرّف الإسلاميّ”.

في مصر قاد الرئيس عبد الفتاح السيسي حملة سياسيّة وفي بعض الأحيان عسكريّة لاجتثاث جماعة الإخوان المسلمين من المجتمع المصريّ. كما لعب جامع الأزهر دوراً كبيراً في مواجهة التطرّف وإظهار الوجه السمح للإسلام

بعد 7 أكتوبر، كنت من الأشخاص الذي توقّعوا أعمالاً إرهابيّة (تفجيرات أو تعدّيات) ضدّ يهود من قبل إسلاميين. بعد مرور أكثر من 50 يوماً على أكثر حرب إسرائيليّة وحشيّة ضدّ الفلسطينيين لم يحدث أيّ من هذا. ما السبب؟

أعتقد أنّ السبب انحسار التطرّف الإسلاميّ المعاصر فعليّاً بعد قرابة قرن على بدايته مع تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في مصر (1928) وتأسيس المملكة السعودية “الوهابيّة” (1932). وهذا لا يعود إلى الحروب التي شنّتها الولايات المتحدة ومعها دول أوروبيّة ضدّ التنظيمات الإسلاميّة المتطرّفة، إنّما إلى معالجة هذه الظاهرة من داخل الإسلام ذاته.

مواجهة التطرّف من الداخل

في مصر قاد الرئيس عبد الفتاح السيسي حملة سياسيّة وفي بعض الأحيان عسكريّة لاجتثاث جماعة الإخوان المسلمين من المجتمع المصريّ. كما لعب جامع الأزهر دوراً كبيراً في مواجهة التطرّف وإظهار الوجه السمح للإسلام. وشكّلت لقاءات الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيّب بالبابا فرنسيس محطّات أساسيّة في هذا المسار.

في المملكة العربيّة السعودية قاد وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان “ثورة” داخل المجتمع السعوديّ، ثورة أدّت إلى تراجع التطرّف في الإسلام الوهّابيّ وتراجع دور رجال الدين في الحياة العامّة، ثورة أكّدت أنّ المملكة تشهد مرحلة تأسيس جديدة ليس على المستوى الاقتصادي والاجتماعيّ فحسب، وإنّما على المستوى الدينيّ أيضاً. هذا ما أكّدته أيضاً دعوة الملك سلمان بن عبد العزيز للبطريرك الماروني (2017) والكاردينال جان لوي تران (2018) لزيارة المملكة. وينقل أحد الأساقفة الذين رافقوا البطريرك الراعي في زيارته للمملكة عن وليّ العهد قوله: “لا نريد التطرّف. نريد الانفتاح”. كما تؤكّد مصادر فاتيكانيّة تطوّر الحوار بين المملكة والفاتيكان. وربّما سيؤدّي قريباً إلى تبادل دبلوماسيّ بين الدولتين.

في الجزائر أيضاً قام الجيش بحملة كبيرة ضدّ التنظيمات الإسلاميّة المتطرّفة التي نشطت في أوروبا في تسعينيات القرن الماضي.

ما جرى في مصر والسعودية والجزائر، كأمثلة بارزة، يؤكّد أنّ معالجة التطرّف الإسلامي يجب أن تأتي من داخل الإسلام لا من خارجه، وأنّ حروب الدول الغربيّة ضدّ التطرّف الإسلاميّ تزيد من تطرّفه وتساهم في انتشاره. لذلك الخشية أن تؤدّي التدابيرالتي تتّخذها فرنسا، ودول أوروبيّة أخرى مثل ألمانيا، بحقّ المسلمين إلى خلق “حالات” إسلاميّة متطرّفة في أوروبا. أقول “حالات”، على شكل ما تسمّيه وزارة الداخلية الفرنسيّة “مظاهر معادية للساميّة”، لا تنظيمات لأنّ كلّ تنظيم يحتاج إلى غطاء دينيّ ودعم ماليّ من دول. وهذا لم يعد متوفّراً في ظلّ سياسات الانفتاح التي تشهدها الدول العربيّة والإسلاميّة.

إقرأ أيضاً: ماكرون من جديد في المنطقة: أين المبادرة؟

بالعودة إلى فرنسا، الإسلام واقع فيها. والمسلمون مواطنون فرنسيون. بدل “السلوك الإسلاموفوبيّ” تجاههم يجب مساعدتهم على الانخراط أكثر في المجتمع عبر التزامهم قيَم الجمهوريّة الفرنسيّة. بيد أنّ المشكلة اليوم في أنّ الحكّام في فرنسا، كما في دول غربيّة أخرى، لا يحترمون القيَم التي قامت عليها الجمهوريّة بانحيازهم الفاضح لإسرائيل التي تخطّت في حربها الحالية على غزّة كلّ انتهاكاتها السابقة للقوانين والأعراف الدوليّة وللقيَم الإنسانيّة.

مواضيع ذات صلة

من 8 آذار 1963… إلى 8 كانون 2024

مع فرار بشّار الأسد إلى موسكو، طُويت صفحة سوداء من تاريخ سوريا، بل طُويت صفحة حزب البعث الذي حكم سوريا والعراق سنوات طويلة، واستُخدمت شعاراته…

سوريا: عمامة المفتي تُسقط المشروع الإيرانيّ

عودة منصب المفتي العام للجمهورية السوريّة توازي بأهمّيتها سقوط نظام بشار الأسد. هو القرار الأوّل الذي يكرّس هذا السقوط، ليس للنظام وحسب، بل أيضاً للمشروع…

فرنسا على خط الشام: وساطة مع الأكراد ومؤتمر دعم في باريس

أنهت فرنسا فترة القطيعة التي استمرّت اثنتي عشرة سنة، مع وصول البعثة الفرنسية إلى العاصمة السورية، دمشق. رفعت العلم الفرنسي فوق مبنى سفارتها. لم تتأخر…

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…