“الوسطية” أو فنّ الواقعية السياسية

مدة القراءة 5 د


قد لا يكون مستغرباً أن يخرج حسان دياب فمصطفى أديب، من عباءة رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي. فالرجلان كانا يعملان معه أو عنده في السابق، أو في الوسط الضبابي، غير المصنّف علناً إلى أيّ جهة هو ينتمي، بين المعسكر السابق 14 آذار، أو ما بقي منه، وبين معسكر 8 آذار المعزّز بالتيار الوطني الحرّ. جلّ ما في الأمر أنّ وسطية نجيب ميقاتي ومن يلوذ به في زمن القحط، قبل أن تلمع الفرصة لأحدهم، لا تعني الاعتدال، بل تؤشر ببساطة شديدة على أنه في المنطقة الوسطى بين معسكرين. ولا تعني كذلك بالمعنى الحرفي، فقد يكون مائلاً أكثر بحسب الظروف إلى معسكر دون آخر، دون أن يقطع شعرة معاوية مع المعسكر المقابل. فالوسطية هنا، بعبارة تجارية معاصرة، هي الماركة المسجّلة للواقعية السياسية، التي تسمح لمن يمارسها بمهارة، وهو يجلس في هذا الموضع، وفي أيّ لحظة، أن يزعم ابتعاده عن معسكر سياسي ما واقترابه من معسكر آخر، من أجل الحصول على مكسب سياسي.

إقرأ أيضاً: من يُشكّل الحكومة نجيب أم أديب؟

لقد سبق أن لعبها الرئيس نجيب ميقاتي عام 2005، فجاء رئيساً للحكومة الانتقالية وولايتها ثلاثة أشهر ما بين اغتيال الرئيس رفيق الحريري وتنظيم انتخابات نيابية، فكان مائلاً بطبيعة المرحلة آنذاك، إلى معسكر 14 آذار، دون أن يثير قلق المعسكر الآخر، فهو كان يراعي مصالحه أيضاً. ثم لعبها مرة أخرى، عام 2011، وفي الاتجاه المعاكس تماماً، وتلك كانت المفاجأة. فقد ارتضى أن يغطّي إسقاط زعيم الأكثرية النيابية، رئيس الحكومة الأولى، سعد الحريري، وأن يشكّل حكومة سمّيت آنذاك بـ”حكومة القمصان السود”، وكانت مائلة بقوة إلى معسكر 8 آذار، دون أن تقطع الشعرة نفسها مع معسكر 14 آذار. وأكثر من ذلك لو عدنا إلى النص المنشور في جريدة “الأخبار” عن دراسة كتبها بالفرنسية رئيس مركز الدراسات الشمالي الدكتور مصطفى أديب عن سيطرة حزب الله على الدولة والحكومة. وذلك في العام 2012.

بات لقاء رؤساء الحكومات السابقين بانضمام الحريري إليه، شبه مؤسسة سياسية سنية بديلة عن الفراغ، أو بسبب العجز عن ملئه بشخصية من الأعضاء الأربعة

مرّت السنون، وانعقدت التسوية الرئاسية عام 2016، فجاءت بثنائي جديد إلى السلطة (عون – الحريري) وخلفهما وفوقهما الثنائي الشيعي. ومع اقتراب موعد الانتخابات النيابية عام 2018، تذبذب نجيب ميقاتي كما لم يفعل من قبل، فترنّح مدّة من الزمان، بين ركوب متن المعارضة ضدّ الحريري، أو مهادنته والتعاون معه. وكانت استقالة الحريري في الرياض عام 2017، وما لابسها وتمخّض عنها، من عودة الحريري إلى السلطة على حصان أسود، حافزاً حاسماً لاستقرار ميقاتي مؤقتاً في الجهة الراجحة سياسياً، فتحالف ضمنياً مع الحريري في الانتخابات شمالاً.

اندلعت الثورة خريف 2019، فاقتلعت حكومة الحريري. ولم يجرؤ أحد على التقدّم برجليه إلى المحرقة. فقذفوا بحسان دياب في أتونها، إلى أن تفحّم مرفأ بيروت بانفجار استثنائي. فراحوا يبحثون عن مغامر آخر، فكان مصطفى أديب. وما بين الاثنين، بات لقاء رؤساء الحكومات السابقين بانضمام الحريري إليه، شبه مؤسسة سياسية سنية بديلة عن الفراغ، أو بسبب العجز عن ملئه بشخصية من الأعضاء الأربعة، وذلك بانتظار الفرصة الملائمة للانقضاض على الموقع السني الأول في الدولة.

رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي، لا يمكنه التخلّي عن وسطيته، وقد اعتاد عليها وتمرّن جيداً عليها. وهي بجوهرها وواقعها واقعية سياسية ثقيلة الوقع

ما هو مثير للاهتمام، أنّ نجيب ميقاتي وقد خرج مرشّحان لتولّي رئاسة الحكومة من عباءته، يطمح للرسملة على الوقائع مع أنها كانت كارثية مع حسان دياب، من أجل التمايز حتى عن لقاء رؤساء الحكومات السابقين. فقد خرق الإجماع السياسي السنّي، وشارك بمشاورات قصر بعبدا حول تشكيل حكومة أديب مصطحباً معه ممثل المستقبل، مرسّخاً مفهوم الوسطية من جهة، ومحاولاً جعل نفسه، مرجعية في تشكيل الحكومات، أو معبراً شرعياً إلى الكرسي الثالثة، من جهة ثانية. فكعادته، يخالف نجيب ميقاتي الاتجاه السني السائد ومعه رفيقه في المشاورات عن المستقبل، وفي الأوقات الدقيقة، اعتقاداً منه أنها شطارة سياسية في الزمن المناسب له، غير آبه بأنّ ما يخسره شخصياً في مغامرة ما، غير ما تخسره طائفة كبرى في حركة سياسية عابرة. 

هذا شيء، وأما ادّعاؤه بأنّ وجوده في لقاء رؤساء الحكومات السابقين هو عامل مساعد وتوجيهي، من أجل التأكيد على اعتدال اللقاء المذكور، بالنظر إلى وسطيته هو، فشيء مختلف جدّاً. والسؤال هو: كيف يحافظ ميقاتي على اتفاق الطائف بأسلوبه في تدوير الزوايا، إلى درجة تحويل الموقف السني إلى دائرة ملفوفة، لا تجد فيها معلماً واضحاً لأيّ شيء؟ والجواب سهل: إنّ رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي، لا يمكنه التخلّي عن وسطيته، وقد اعتادها، وتمرّن جيداً عليها. وهي بجوهرها وواقعها واقعية سياسية ثقيلة الوقع. هذه الوسطية تتزحزح بحسب موقع القطبين المتعارضين سياسياً، وبحسب رجحان القوى لا توازنها، بحيث تخلص عند غروب الشمس إلى اللاموقف من أيّ شيء، فلكلّ زمن موقفه المناسب، وسيكون له تبريره كذلك.

 

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…