مرّ تقرير التدقيق الجنائي الذي أنجزته شركة “ألفاريز إند مارسيل” مرور الكرام. تلهّى الإعلام بقشوره وأخبار رياض سلامة والشركات التي اختلس عبرها قرابة 300 مليون دولار، فيما الرقم الأكبر الذي ورد في التقرير لم يتوقّف أحد عنده، وهو رقم “الهندسات المالية”.
قالت الشركة في تقريرها إنّ حجم تلك الهندسات بلغ بين عامَي 2015 و2020 قرابة 115 تريليون ليرة لبنانية، أي ما يعادل على سعر الصرف الرسمي قبل الأزمة 76.6 مليار دولار. لم يتطرّق المصرف المركزي إلى مضمون التقرير، فلم يؤكّد ما ورد فيه ولم ينفِه، وهو ما أوحى للرأي العامّ بأنّ تلك الأرقام صحيحة وبأنّ الحاكم السابق رياض سلامة فعلاً أنفق 76.6 مليار دولار على الهندسات المالية.
حتى السلطة السياسية والقضاء لم ينبسا ببنت شفة حيال هذا التقرير، ما خلا مدّعي عام التمييز غسان عويدات الذي جزّأه إلى فصول ووزّعه، على قضاة التحقيق الذين لم يُسمع منهم أيّ كلمة حتى الآن.
تؤكّد المعلومات أنّ أيّ جهة رسمية في الدولة اللبنانية لم تقدم على ترجمة هذا التقرير الصادر باللغة الإنكليزية في 320 صفحة، وربّما هذا هو سبب إغفال الكثير من التفاصيل التي وردت فيه وعدم متابعة الإعلام له كما يجب.
مقاضاة “ألفاريز إند مارسيل“
تشير المعلومات أيضاً إلى أنّ المدقّق المالي العالمي “إرنست إند يونغ” الذي كان يتولّى التدقيق في حسابات مصرف لبنان، يدرس جدّياً مقاضاة شركة “ألفاريز إند مارسيل” المغمورة، باعتبار أنّها أوردت في تدقيقها “تخبيصات” بليغة قادرة على المسّ بسمعة الشركة العريقة التي تفوق “ألفاريز إند مارسيل” مكانةً وسُمعة.
يقول مصدر مصرفي واكب تلك المرحلة المالية والنقدية إنّ كلّ ما استقطبه مصرف لبنان من المصارف المحلية من أجل الهندسات هو بين 25 و30 مليار دولار
أكّدت أوساط مصرفية مطّلعة على تفاصيل هذا الملفّ لـ”أساس” أنّ رقم “الهندسات المالية” الذي ورد في التقرير “غير صحيح على الإطلاق”، بل فيه “غشّ” موصوف، لأنّ الهندسات المالية لم تتعدَّ عتبة 30 مليار دولار في أحسن الأحوال.
بحسب تلك الأوساط، فإنّ ما قامت به “ألفاريز إند مارسيل” خلال التدقيق، هو أنّها وضعت كلّ الأرقام في سلّة واحدة: مجموع حسابات التعاميم التي أنتجتها الأزمة بعد عام 2019 وحتى 2020، وما أنفقه مصرف لبنان على ملفّ كهرباء لبنان ودعم الفيول، يضاف إلى هذا كلّه “الهندسات الماليّة”.
لم يفرّق التقرير، بحسب الأوساط نفسها، بين أرقام ما قبل الأزمة وما بعدها، بل جمعها بعضها مع بعض واحتسبها بالليرة اللبنانية من دون أيّ اعتبار لسعر الصرف قبل 2019 وبعده. ولم يخبر التقريرُ الرأيَ العامّ في كلّ سنة ما كان رصيد الهندسات، وكيف احتُسبت وعلى أيّ أساس.
جلّ ما قامت به الشركة أنّها أعلنت هذا الرقم باعتبار أنّه “الهندسات المالية”…. وهو ما يعني أنّنا بتنا بحاجة إلى تدقيق جنائي للتدقيق الجنائي نفسه!
يقول مصدر مصرفي واكب تلك المرحلة المالية والنقدية إنّ كلّ ما استقطبه مصرف لبنان من المصارف المحلية من أجل الهندسات هو بين 25 و30 مليار دولار. بينما الكلفة التي دفعها مصرف لبنان على تلك الهندسات، هي ما بين 5 أو 10 مليارات دولار في أبعد تقدير، وليس 76.6 ملياراً مثلما ذكرت “ألفاريز إند مارسيل” في تقريرها!
من استفاد من “الهندسات”؟
يؤكّد المصدر أنّ “تكلفة الهندسات” تختلف كلّياً عن “الهندسات” نفسها، التي استفاد منها المودعون بنحو 80% (أي 80% من تكلفة الهندسات بين 5 إلى 10 مليارات دولار) بعدما استُقطبت منهم الأموال (على شكل ودائع).
يشرح المصدر كيف حصل ذلك بشكل مبسّط، فيقول إنّ المصارف كانت وسيطاً بين المصرف المركزي وبين المودعين. كان المصرف المركزي يقدّم إغراءات للمصارف من أجل استقطاب الأموال. وتلك الإغراءات عبارة عن فوائد تراوح بين 15% و25%.
أكّدت أوساط مصرفية مطّلعة لـ”أساس” أنّ رقم “الهندسات المالية” الذي ورد في التقرير “غير صحيح على الإطلاق”، بل فيه “غشّ” موصوف
كانت المصارف تمنح المودع 12% أو ربّما 15% وتحتفظ لنفسها ببقيّة الفائدة. ولاحقاً حينما انخرطت أغلب المصارف بالهندسات، رُفعت النسبة المقدّمة للمودعين بدافع المنافسة، فوصلت لدى بعض المصارف إلى نحو 18%، محتفظة لنفسها بحدود 5% أو 3% فقط.
في الوقت نفسه، كان مصرف لبنان يمنع المصارف من تحويل تلك الفوائد المتأتّية من الهندسات إلى دولار، وكان يمنعها من توزيعها على شكل أرباح للمساهمين. كان يفرض على المصارف زيادتها إلى رأس المال حتى لا تخرج من القطاع المصرفي. وهو ما يعني أنّ المصارف كانت مرغمة على “نفخ” رساميلها فقط. لكن بعد الأزمة “تبخّر كلّ شيء”، يضيف المصدر، فكانت النتيجة أنّ الهندسات المالية “أضرّت بالمصارف ولم تفِدها” لأنّ الأزمة حين وقوعها “أكلت الرساميل بما فيها من أرباح”.
ينطبق ذلك أيضاً على المودعين، الذين خسروا ودائعهم وفوائدها، خصوصاً أولئك الذين أبقوها في القطاع المصرفي. فالمصرف المركزي “قد أعطى الـreturn لكنّه في الوقت نفسه أخذ الـCapital”، كما يؤكّد المصدر.
أمّا مَن استفاد من تلك العملية فهم المودعون الذين حصلوا على الفائدة ثمّ سحبوا أرصدتهم من المصارف أو حوّلوها إلى الخارج، وهم قلّة لأنّ معظم المودعين “أصابهم الطمع” وأبقوا الودائع والفوائد في المصارف، فخسروا الاثنتين معاً.
إقرأ أيضاً: “اللائحة الرماديّة” تقترب… لصالح شركات تحويل الأموال
بل أكثر من ذلك، يضيف المصدر أنّ الهدف من تكليف “ألفاريز إند مارسيل” كان الكشف للرأي العامّ اللبناني في البلاد أين تبخّرت الودائع. لكنّ هذا التدقيق لم يجاوب على هذا السؤال المركزي. بل جلّ ما قام به هو الحديث عن تمويل رياض سلامة لبعض الجمعيات وكيف اشترى سيارات أو حوّل أموالاً لـ”فوريه” وغيرها. لم يقُل التقرير بشكل واضح إنّ تبخّر أموال المودعين كان نتيجة تثبيت سعر الصرف الذي يمثّل بحسب المصدر “قرابة 60% من الخسائر”، والذي أصرّت الحكومات المتعاقبة عليه وسكت عنها مصرف لبنان. لم يقُل إنّ تمويل مصرف لبنان للدولة كانت نسبته مثلاً 25% في أبعد حدّ، بينما بقية المبلغ أُهدر على المحاصصة والسمسرات. “لم يأتِ التقرير على تفنيد هذه الحقائق حتى يخبرنا بعد ذلك ما يريد عن “فوريه” أو “أوبتيموم” أو غيرهما”.
لمتابعة الكاتب على تويتر: emadchidiac@