12 سنة مرّت على وصول أوّل نازح سوري قادم من تلكلخ إلى عكار في لبنان. يومها اعتقدت الدولة اللبنانية أنّها أزمة أشهر، أو سنة كأبعد تقدير، فتعاطت معها بطريقة خاطئة، ولا تزال. فقد نأت بنفسها عن معركة “الداتا” التي تطالب بها “كلّما دقّ كوز الحكومة بجرّة الأمم المتحدة”، جاعلةً منها شمّاعة تعلّق عليها فشل سنوات، ونكداً سياسياً كان في أوجِه خلال سنوات التسوية الحريرية–العونية. ما أنتج أزمة بحجم وطن تخلّت فيها الدولة عن دورها في التعداد والإدارة والتنظيم… وتمسّكت بدور “الشحّادة” على أبواب المؤتمرات الدولية.
فما الذي حصل في أزمة النازحين منذ 12 عاماً حتى اليوم؟ كيف تخلّت الدولة عن دورها؟ وكيف تفرّجت على المشكلة حتى صارت أزمة؟ ما الذي فعلته المفوّضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين؟ كيف قضى الصراع السياسي على الحلّ؟ وما علاقة جبران باسيل بكلّ ذلك؟ ما هي الأرقام الدقيقة؟ وما مصير الأزمة مع نظام لا يريد أبناءه؟…
“أساس” يفتح هذه الأسئلة وغيرها على النقاش في تحقيق مفصّل من 3 حلقات يحاول وضع بعض النقاط على الحروف العارية في أزمة طالت فصولها وأطال البعض الاستثمار فيها لغايات سياسية.
السوريّون بالأرقام
بلغ إجمالي عدد السوريين مع نهاية الربع الأول من عام 2023 ما يقارب 26.7 مليون شخص، منهم 16.76 مليوناً تقريباً داخل سوريا، و9.12 ملايين تقريباً خارجها، و897 ألف مفقود ومغيَّب، بحسب “مؤسّسة جسور للدراسات”.
– توزُّع عدد السكان داخل سوريا مع نهاية الربع الأوّل من 2023 كالتالي:
– 2,654,000 عدد السكان في شرق الفرات (مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد”)، أي ما يشكّل 16%.
– 4,346,000 عدد السوريين في شمال سوريا (مناطق سيطرة المعارضة)، أي 26%.
– 9,645,700 عدد السكّان ضمن مناطق سيطرة النظام، أي 58%.
تعليقاً على أزمة الداتا بين جهاز الأمن العامّ والمفوضية، يؤكّد مصدر مواكب للملفّ أنّ المفوضية يهمّها ضبط حركة النازحين على الحدود، وتمييز من يستطيع الدخول والخروج من سوريا من دون أيّ تهديد أمنيّ
أمّا خارج سوريا فتوزّع النازحون كما يلي:
– 2,956,000 في تركيا.
– مليون لاجئ في ألمانيا.
– 920 ألفاً في لبنان.
– 610 آلاف في الأردن.
– 398 ألفاً في مصر.
– 320 ألفاً في العراق.
– 150,200 في دول أخرى.
– 150 ألفاً في السويد.
– 112 ألفاً في السودان.
– 100 ألف في دول أوروبية مختلفة.
– 60 ألفاً في هولندا.
– 60 ألفاً في النمسا.
– 60 ألفاً في كندا.
– 50 ألفاً في فرنسا.
– 35 ألفاً في المغرب العربي.
– 15 ألفاً في الولايات المتحدة.
إلى جانب هذه الأرقام، هناك 90 ألف مطلوب سياسي سوري في لبنان، بحسب صحف غربية. لكنّ معلومات “أساس” تؤكّد أنّ المطلوبين الأمنيّين في لبنان قلائل، فمعظمهم مطلوبون من أجل الخدمة العسكرية، إذ إنّ كلّ سوري تجاوز عمره الـ18 عاماً يُعتبر مطلوباً لخدمة العلم، أمّا المعارضون للنظام فأغلبهم أصبحوا خارج لبنان، سواء في تركيا أو السويد أو غيرهما.
المفوضيّة VS الدولة
للمفوّضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين قصّتها الخاصة مع ملفّ النزوح التي ترويها لـ”أساس” مصادر مطّلعة على الملفّ. فمنذ 2011 وبتكليف من مجلس الوزراء بدأت المفوضية بالتسجيل بعد مرور شهرين على بدء توافد النازحين إلى لبنان، ثمّ انسحبت الهيئة العليا، أي الدولة، واستمرّت المفوضية.
حين وصل عدد النازحين إلى مليون و200 ألف في 2015، بات الرقم غير مقبول سياسياً فطُلب من المفوضية توقيف التسجيل، لكنّها استمرّت بالتسجيل مع اختلافات بسيطة في تقنيّة التسجيل: “كلّ من كان يطرق بابها كانت تأخذ منه الداتا، وكلّ من هو بحاجة إلى المساعدة كانت تساعده وفقاً للمعايير الإنسانية الدولية التي تحتكم إليها المفوضية، لكن من دون منحهم بطاقات”.
منذ ذلك الحين عاد نازحون إلى سوريا بتنظيم بين المفوضيّة والأمن العامّ (حملات العودة الطوعية)، ومنهم من عادوا وحدهم، ومنهم من أُعيد توطينهم في دول ثالثة، وبلغ عددهم 94 ألفاً منذ بداية الأزمة، وهو ما يشكّل 14% من مجمل حالات إعادة التوطين في العالم، (ما يقرب من 8,000 شخص تمّ توطينهم في بلد ثالث خلال العام الأخير)، بحسب معلومات “أساس”.
معلومات “أساس” تؤكّد أنّ 16% من المسجّلين لدى المفوضية فقط لديهم إقامات شرعية في لبنان، بعدما كانت هذه النسبة 30% قبل خمس سنوات
توضح الأرقام أنّ ما يقارب 805 آلاف نازح سوري مسجّلون رسمياً لدى المفوضية، وما يقارب 700 ألف مسجّلون من غير بطاقات، فيكون المجموع ما يقارب مليوناً ونصف مليون موزّعين بينregistered and recorded ، وهو الرقم الذي يتطابق مع العدد الذي تستعمله الحكومة اللبنانية في المؤتمرات الدولية. بالتأكيد يوجد في لبنان سوريون لم يقصدوا المفوضية لأنّهم ليسوا بحاجة إليها مادّياً، أو كانوا خائفين لدرجة عدم الإقدام على زيارة مكاتب المفوضية، أو هم متموّلون، وجميع هؤلاء لا يتعدّى عددهم 200 ألف سوري.
قامت الدولة بـ5 محاولات لعدّ النازحين منذ بداية الأزمة، وجميعها كانت من دون جدوى، وآخرها الطلب من البلديات عدّ النازحين وفقاً لاستمارة ورقية، وهي المحاولة التي ستبوء أيضاً بالفشل لأنّه ليس من السهل عدّ الناس، ولا سيّما إن كنّا نتحدّث عن وسائل بدائية، بحسب المصدر.
النظام يعرقل العودة
واجهت أزمة النزوح في لبنان عراقيل خارجية أيضاً، جاء أبرزها من النظام السوري. فحين بدأ الأمن العامّ بحملات العودة الطوعية في 2014 و2015، كان يتمّ إرسال أسماء الراغبين بالعودة إلى الأمن العام السوري للموافقة عليها، وكانت الموافقة من الجانب السوري لا تتعدّى 10% فقط “لأنّ النظام السوري لا يريد العودة بل يريد التطبيع السياسي معه، وكان يحاول الضغط واستغلال أزمة النزوح لصالحه، فهو معروف تاريخياً بأنّه يخلق المشكلة ويتقاضى ثمن الحلّ، وكان وما يزال يريد ثمن الحلّ”.
في عام 2022 سُجِّل 5,000 طلب عودة طوعية فجاءت الموافقة من النظام السوري على 700 فقط، فيما يقول مسؤولوه: “أبوابنا مفتوحة لعودة النازحين”. وهناك عدّة مؤشّرات أخرى تؤكّد أنّ النظام لا يريد إعادة النازحين، ومنها:
– قبل أشهر طلب النظام السوري من كلّ سوري يريد العودة إلى بلده أن يدفع 100 دولار، ثمّ تراجع عن هذا القرار بسبب تداعياته التي كانت مرفوضة من الجميع.
– الاستملاكات: وهذا مؤشّر آخر إلى عدم رغبة النظام السوري بعودة النازحين، وهو الأمر الذي يأتي في إطار تشييع المجتمع السوري (استبدال السُّنّة بالشيعة)، وحينها طالب النظام السوري النازحين بتثبيت ملكيّاتهم خلال شهرين وإلّا فستستملكها الدولة. وهو ما عرف بـ”القانون رقم 10″، الذي أباح “سرقة” ممتلكات النازحين، وتبيّن لاحقاً أنّه يجري توزيعها على الميلشيات الإيرانية، عراقية ولبنانية وأفغانية وغيرها، لـ”توطين” ما أمكن منها، بعد تجنيسهم.
– الخدمة الإلزامية: نرى النظام يصدر عفواً للشباب من خدمة العلم لمدّة سنة، أو أشهر فقط. لكن بحسب حالات موثّقة، ما إن يدخل هؤلاء سوريا حتى يتمّ إلزامهم بتأدية هذه الخدمة. وعن النازحين الذين انتخبوا الأسد، يؤكّد المصدر أنّ هناك حالات مثبتة عن تعرّضهم لضغوط من أجل أن ينتخبوا بشار الأسد، لكنّهم ليسوا كثراً، إذ لا يتجاوز عددهم 35 ألفاً تقريباً.
تشير المصادر نفسها إلى تعاميم أصدرها الأمن العامّ مراراً، أكّدت أنّ أيّ سوري يريد العودة إلى بلاده ستتمّ تسوية أوراقه على الحدود مباشرة
المجتمع الدوليّ
أمّا المجتمع الدولي فيصرّ على أنّ الحلّ السياسي للصراع في سوريا هو شرط ضروري لتقديم الدعم المالي وإطلاق إعادة التأهيل وإعادة الإعمار. وهذه زبدة الموقف الأميركي الرافض بشكل قاطع التطبيع السياسي والاقتصادي مع نظام الأسد. وهو ما يضعف فعّالية تدخّلات المجتمع الدولي لحلّ الأزمة. لذلك تبرز عدم قدرته على تقديم أيّ حلّ بديل عدا عن توفير بعض المساعدات للنازحين في لبنان، وهو ما يسمّيه المصدر “اعتماد سياسة تكريس الأمر الواقع”.
لم يفعل المجتمع الدولي ما يلزم “لتطيير الأسد”، واليوم يرفض التحدّث معه، والحلّ برأيه هو إبقاء السوريين في لبنان من دون أن يكون لديه أيّ تصوّر للمستقبل: “فهو مرتاح لهذا الوضع، إذ لا يكلّفه أكثر من مليار ونصف المليار دولار سنوياً، ويخفّف عنه عبء التوطين في البلدان الثالثة”. ومن الطبيعي أنّ هذه المساعدات للبنان ستتقلّص بعد أحداث أوكرانيا والسودان.
المساعدات بالأرقام
خطّة الاستجابة للأزمة السوريّة في لبنان موّلت الملفّ في العام الماضي بمليار و300 مليون دولار من أصل نداء وطلب لبناني لـ3.5 مليارات. وعلم “أساس” أنّ النداء هذا العام (2023) سيكون بـ4 مليارات نظراً للوضع المزري للّبنانيين وضرورة مساعدتهم أكثر.
– انقسمت خطة الاستجابة العام الماضي إلى 800 مليون دولار مساعدات إنسانية للسوريين واللبنانيين، ومشاريع تنموية بالباقي.
– المستفيدون: مليون و100 ألف سوري ومليون لبناني.
– السوريون قبل الأزمة كانوا يتلقّون المساعدات بالدولار، ومنذ الأزمة لم يقبضوا دولاراً واحداً، علماً أنّ هناك اتجاهاً لعودة صرف المساعدات للسوريين بالدولار بالاتفاق مع الدولة اللبنانية.
– تتلقّى العائلة السورية الواحدة حالياً مليونين و500 ألف ليرة لبنانية “كاش”، ومن الـworld food program مليوناً و100 ألف ليرة عن كلّ فرد، شرط ألّا يتعدّى عدد الأفراد المستفيدين من العائلة الواحدة 5 أشخاص، فيكون ما تحصل عليه العائلة السورية في لبنان 8 ملايين ليرة حدّاً أقصى، أي 80 دولاراً تقريباً.
– تساعد الخطّة نفسها العائلات اللبنانية الأكثر فقراً عبر برنامجين:
– NPTP – National poverty targeting program
– وESNN – LEBANON EMERGENCY CRISIS AND COVID-19 RESPONSE SOCIAL SAFETY NET PROJECT.
تصل هذه المساعدات إلى 160 ألف عائلة بـ45 إلى 145 دولاراً للعائلة الواحدة، بالإضافة إلى الحصص الغذائية.
– تغطّي الخطّة كلّ الاستشارات الطبية للّبنانيين والسوريين، وأكثر من مليون لبناني استفادوا من الاستشارات الطبية.
– تخصّص الخطة شهرياً 3 ملايين دولار كميزانية استشفاء للسوريين والمستشفيات، وتسمح بتغطية الحالات المستعصية فقط أو ما هو ضروري لإنقاذ الحياة.
– في التربية غطّت خطة الاستجابة رسوم تسجيل 290 ألف تلميذ لبناني في المدارس العام الماضي، ورواتب 12 ألفاً و500 أستاذ لتعليم السوريين بعد الظهر.
معضلة الإقامات
تعليقاً على أزمة الداتا بين جهاز الأمن العامّ والمفوضية، يؤكّد مصدر مواكب للملفّ أنّ المفوضية يهمّها ضبط حركة النازحين على الحدود، وتمييز من يستطيع الدخول والخروج من سوريا من دون أيّ تهديد أمنيّ، لأنّ هؤلاء يحصلون على مساعدات فيما ليست لديهم أيّة مشاكل أمنيّة مع النظام. ويستذكر المصدر التجربة الناجحة التي حصلت خلال التعاون بين المفوضية والأمن العامّ خلال ولاية وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق، فأدّت إلى شطب 25 ألفاً من سجلّات المفوضية خلال فترة قصيرة. وذلك قبل أن ترفض الدولة اللبنانية تكرار التجربة وتسليم المفوضية داتا الدخول والخروج عبر المعابر الشرعية.
في هذا الإطار لا يخفي المصدر تخوّف المفوضية من تسليم الداتا للدولة اللبنانية، من دون الحصول على ضمانات لمعايير حماية هذه الداتا. ويكشف عن مفاوضات شبه يومية مع الأمن العامّ في هذا الخصوص. من جهتها، تؤكّد مصادر الأمن العامّ لـ”أساس” أنّ النازحين السوريين لا يخرجون عبر المعابر الشرعية كي لا تسقط عنهم صفة النازح فتتوقّف المساعدات الأممية التي يحصلون عليها من المفوضية.
إقرأ أيضاً: النزوح السوريّ (2): تاريخ من التعطيل.. فتّش عن باسيل
بدوره يتحفّظ الأمن العامّ على تقديم داتا الإقامات. ويعتبر أنّ ذلك قد يحوّل المشكلة إلى غير مكانها، فيما معلومات “أساس” تؤكّد أنّ 16% من المسجّلين لدى المفوضية فقط لديهم إقامات شرعية في لبنان، بعدما كانت هذه النسبة 30% قبل خمس سنوات.
وترى مصادر الأمن العامّ أنّ المشكلة ليست في الإقامات: “فاليوم إذا كنت لبنانياً، على سبيل المثال لا الحصر، وأضعت جواز سفرك في أيّ بلد أجنبي، ستعود إلى بلدك ببطاقة الهويّة الخاصّة بك بغضّ النظر عن حصولك على إقامة في ذلك البلد الأجنبي أم لا”.
وتؤكّد هذه المصادر في حديثها لـ”أساس” أنّ منظمة الأمم المتحدة اليوم تجمع المعلومات وتقدّمها للمجتمع الدولي، وهو الأمر الذي كان يجب أن يقوم به الأمن العامّ، لكنّه لم يفعل بسبب الخلاف السياسي: “فالأمن العامّ جهاز تنفيذي، ينفّذ القرار السياسي أو القرارات القضائية”.
تشير المصادر نفسها إلى تعاميم أصدرها الأمن العامّ مراراً، أكّدت أنّ أيّ سوري يريد العودة إلى بلاده ستتمّ تسوية أوراقه على الحدود مباشرة. وتتساءل المصادر: “لماذا المفوضية تعطي الداتا للصليب الأحمر الدولي لتغطية السوريين غير المسجّلين صحّياً ولا تسلّمها للأمن العامّ اللبناني؟”.
بدأنا تحقيقنا المطوّل بالداتا ونختمه بالداتا…
لكن ما نفع الداتا إذا كنّا نتحدّث عن دولة لم تخطّط للاستفادة من أزمة النزوح كغيرها من الدول، بل تلهّت بقشور الخلاف السياسي فدفع اللبنانيون والسوريون على حدّ سواء ثمن النكد السياسي المحلّي واستهتار المجتمع الدولي على مدى 12 عاماً.
يبدو أنّ النازحين باقون حتى الساعة بعد اعتراف مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي خلال مؤتمر بروكسيل للنازحين السوريين قبل أسابيع، بأنّ عودتهم “غير ممكنة في الوقت الحالي”، لأنّ الاتحاد لن يتّخذ مسار التطبيع مع النظام السوري بل سيترك الأمر للدول المضيفة، ولم يقرّ سوى 560 مليون يورو لسدّ حاجات النازحين الموزّعين على الدول المضيفة.