12 سنة مرّت على وصول أوّل نازح سوري قادم من تلكلخ إلى عكار في لبنان. يومها اعتقدت الدولة اللبنانية أنّها أزمة أشهر، أو سنة كأبعد تقدير، فتعاطت معها بطريقة خاطئة، ولا تزال. فقد نأت بنفسها عن معركة “الداتا” التي تطالب بها “كلّما دقّ كوز الحكومة بجرّة الأمم المتحدة”، جاعلةً منها شمّاعة تعلّق عليها فشل سنوات، ونكداً سياسياً كان في أوجِه خلال سنوات التسوية الحريرية–العونية. ما أنتج أزمة بحجم وطن تخلّت فيها الدولة عن دورها في التعداد والإدارة والتنظيم… وتمسّكت بدور “الشحّادة” على أبواب المؤتمرات الدولية.
فما الذي حصل في أزمة النازحين منذ 12 عاماً حتى اليوم؟ كيف تخلّت الدولة عن دورها؟ وكيف تفرّجت على المشكلة حتى صارت أزمة؟ ما الذي فعلته المفوّضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين؟ كيف قضى الصراع السياسي على الحلّ؟ وما علاقة جبران باسيل بكلّ ذلك؟ ما هي الأرقام الدقيقة؟ وما مصير الأزمة مع نظام لا يريد أبناءه؟…
“أساس” يفتح هذه الأسئلة وغيرها على النقاش في تحقيق مفصّل من 3 حلقات يحاول وضع بعض النقاط على الحروف العارية في أزمة طالت فصولها وأطال البعض الاستثمار فيها لغايات سياسية.
من التجارب الجدّية التي قامت بها الدولة في تلك المرحلة مواجهة كارثة الولادات السورية غير المسجّلة، إذ اكتشف لبنان الرسمي في 2016 – 2017 أنّ الولادات السورية لا يتمّ تسجيلها
بين عامَيْ 2014 و2017 جرت تجارب جدّيّة لتفادي الكارثة في ملفّ النزوح، نذكر منها مذكّرة تفاهم بين المفوضية ووزارة الداخلية والبلديات في عام 2016، خلال ولاية الوزير السابق نهاد المشنوق، للحصول على 21 مليون دولار لمساعدة الأمن العامّ تقنيّاً في إعطاء إقامات للسوريين.
إذ لا يمكن بناء قاعدة معلومات وطنية عن أعداد السوريين تكون بداية لاستعادة الدولة اللبنانية دورها في الملفّ، إلا من خلال إعطائهم إقامات. ولا يمكن تسهيل العودة إلى سوريا إلا من خلال تنظيم وجودهم في لبنان شرعيّاً. لكنّ السياسة أيضاً عرقلت منح السوريين إقامات شرعية، وتمّ أخذها إلى مكان آخر: “فالإقامات ليست للدمج ولا للتوطين، فهل لبنان يقوم بدمج وتوطين العمّال الأجانب وعاملات المنازل مثلاً؟ لكن أيّ محاولة للحلّ كان يتمّ تسييسها”، بحسب مصدر رسمي مواكب للملفّ منذ عام 2011.
تسجيل الولادات
من التجارب الجدّية التي قامت بها الدولة في تلك المرحلة مواجهة كارثة الولادات السورية غير المسجّلة، إذ اكتشف لبنان الرسمي في 2016 – 2017 أنّ الولادات السورية لا يتمّ تسجيلها، وهو ما يشكّل كارثة حقيقية في هذا الملفّ، ووضعت وزارة الداخلية يومها آليّات لتنظيم تسجيل الولادات ليس للتوطين بل لإعطائهم أوراقاً ثبوتية تمكّنهم من أن يعودوا إلى بلدهم لاحقاً ولا يصبحوا مكتومي القيد في لبنان.
أدّى عدم وجود إقامات صالحة مع الأهل أو شهادات تسجيل زواج رسمية أو إفادات مختار محلّي إلى عدم تسجيل الولادات. وعليه أصدر وزير الداخلية والبلديات يومها قراراً يسهّل تسجيل الولادات، وعملت الوزارة عن قرب مع المخاتير ومع دار الفتوى لتخفيف الرسوم على تسجيل الزيجات، وبقي العائق الأساسي في الإقامات. وحتى الآن يتمّ تسجيل الولادات بهذه الطريقة عبر ورقة من المختار. وتؤكّد مصادر المفوضية أنّ 80% من الولادات مسجّلة اليوم لدى مختار، وهو ما يُعتبر بداية إثبات على ولادتهم على الأراضي اللبنانية.
معظم هذه التجارب أو جميعها تقريباً أُوقفت في زواريب السياسة: “شهر العسل بين العونيين وتيار المستقبل انعكس سلباً على الملفّ، فأُوقفت إجراءات جدّية لها علاقة بالأزمة”. ويكاد المطّلعون على تفاصيل الحلّ المقدّمة في تلك المرحلة يجزمون أنّ رئيس التيار الوطني الحرّ النائب جبران باسيل كان لاعباً أساسيّاً على خطّ التعطيل، ليس حبّاً بالنازحين بل طلباً للشعبية المغمّسة بالأزمات، في الشارع المسيحي. وكثيراً ما عرقل الحلول وطالب بإيقافها: “فإمّا أن يحلّها على طريقته ويظهر نفسه بطلاً، أو يستعمل أزمة النزوح لتخويف المسيحيين. وربّما التهويل الدائم بالدمج والتوطين هو الذي أوصل الأزمة إلى ما هي عليه الآن”، يقول أحد المسؤولين عن الملفّ في تلك المرحلة.
لعنة التسوية الرئاسيّة.. المرعبي يروي
كيف أثّرت التسوية الرئاسية على وقف إجراءات جدّية لها علاقة بحلّ أزمة النزوح؟
سأل “أساس” أحد الوزراء المعنيّين في تلك المرحلة، الذي شهد عن قرب على “فصول باسيل المعرقِلة” في هذا الإطار، التي هي كثيرة كما يؤكّد وزير الدولة لشؤون النازحين السوريين السابق معين المرعبي. فسرد لنا أبرز المواقف التي تؤكّد العرقلة السياسية الصادرة عن الحكومة مجتمعة تحت مظلّة التسوية الرئاسية، ومن باسيل بشكل خاص.
نذكر منها بلسان الوزير المرعبي على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
– عندما أُنشئت وزارة شؤون النازحين كانت النيّة إنشاء وزارة حقيقية تُحدث خرقاً في أزمة النازحين، لكنّ العرقلة بدأت من اليوم الأول، فلم تخصِّص الحكومة مكتباً لهذه الوزارة، إلى حين استيلائنا على أحد المباني الفارغة المخصّصة لمجلس الوزراء، حيث باشرنا العمل.
– مُنع تعيين أيّ موظّف للقيام بأعمال وزارة شؤون النازحين، فشكّلت فريقي عبر التعاون مع الجمعيّات الدولية المعنيّة.
– لم يتمّ تمويل الوزارة بليرة واحدة لمدّة سنة كاملة، وبعد حرب ضروس خصّصت لنا الحكومة مبلغ 3 ملايين و500 ألف ليرة، وكان عليّ تحمّل المبالغ الشهرية التي تُصرف على السيارات والمحروقات للقيام بالزيارات الميدانية.
لم يشرّع لبنان أيّ قوانين خاصة تُعنى بالنزوح السوري. وشروط النزوح السوري في لبنان هي نفسها شروط التعاطي مع أيّ أجنبي في لبنان. بينما الفلسطينيون لديهم قانون خاص
– قدّمنا بالتعاون مع الوزارات المعنيّة ورقة من أجل تحديد سياسة الحكومة تجاه أزمة النازحين، وعرضناها على اللجنة الوزارية برئاسة الرئيس سعد الحريري. وكان جواب جبران باسيل أنّه موافق على 95% من الورقة، أمّا الـ5% الباقية فلا نعلم حتى الآن ما هي اعتراضات باسيل عليها. لكنّنا نعلم أنّ قرارات باسيل كانت بالتنسيق الكامل مع حليفه الحزب، أحد الأسباب المباشرة لهذا اللجوء. ثمّ دخلنا مع باسيل في لعبة التعديلات التافهة، فكان يرمي الكرة إلينا ثمّ نعيد رميها إليه، وهكذا حتى نهاية عمر الحكومة.
– شنَنّا حرباً من أجل الولادات الجديدة غير المسجّلة. وكان الوزير نهاد المشنوق أوّل من وضع يده على الجرح في هذا الموضوع لضرورة منح هذه الولادات أوراقاً ثبوتية بالحدّ الأدنى كي لا يصبحوا مكتومي القيد في لبنان. واعترض يومها باسيل على الحلول المطروحة من دون وجه منطق، وتواصلتُ شخصيّاً مع البطريرك الماروني بشارة الراعي ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع لإعلاء الصوت في شأن أزمة الولادات والضغط على باسيل لتفادي الكارثة.
– يوم انعقدت القمّة العربية الاقتصادية الاجتماعية في بيروت، وكانت الحكومة في مرحلة تصريف الأعمال، فوجئنا بباسيل يلقي خطاباً في هذه القمّة من دون وجه اختصاص، ويتحدّث باسم الحكومة، ويطلق مواقف همايونية. كان وزير الخارجية الوحيد في القمّة، وقدّمنا يومها مذكّرة للأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط شرحنا فيها أنّ ما قاله باسيل يعبّر عن رأيه الشخصي لا عن موقف الحكومة.
– قدّمت المفوضيّة سيّارة واحدة للوزارة لاستخدامها في الجولات الميدانية إلى المخيّمات، واتّخذنا قراراً في مجلس الوزراء بذلك. ولم تنتهِ هذه القصّة إلى نتيجة عملية، لأنّ الموضوع بقي معلّقاً في وزارة الخارجية بسبب عدم توقيع باسيل على هذا الطلب.
– في عرسال فاضت “المجارير” في المخيّمات بسبب الأمطار، ووصلت إلى الأهالي في عرسال. فتوتّرت العلاقة بين العراسلة والنازحين. عاينّا المشكلة، ووجدنا حلّاً لها، إلا أنّ الحلّ الرسمي عرقلته عدّة مرّات وزارة الطاقة والمياه، ومن خلفها باسيل، على الرغم من موافقة المدير العامّ المختصّ في المجال على الحلّ. وتمّ الطلب من الجمعيّات وقف هذا المشروع وعدم استكماله لأنّهم يريدون للمجتمع المحلّي أن يتصادم مع اللاجئين، واضطررنا يومها إلى تنفيذ المشروع عبر متطوّعين.
– في مؤتمر “سيدر” الذي كان من المفترض أن يمنح لبنان 3 مليارات دولار لتحمّله أعباء النزوح، وبعد نقاشي مع بعض المعنيّين الدوليين في هذا الملفّ توصّلنا إلى اتفاق على اعتبار هذه الأموال بدل فوائد عن 10 إلى 12 مليار دولار لتمويل مشاريع إنمائية في لبنان من دون فوائد. وافق الحريري يومها على الفكرة، وبعد أيام زارني أحد المسؤولين الكبار في الأمم المتحدة بعد جولة له في سوريا، عقب زيارته باسيل، وقال لي إنّ جبران أخبره بصريح العبارة أنّه سيعطّل “سيدر”، وطلب منّي إيصال هذا الكلام للحريري، وذلك بحضور أحد المسؤولين اللبنانيين الكبار في الأمم المتحدة. وطار “سيدر” وطارت معه المشاريع الإنمائية.
يؤكّد المرعبي أنّ هذا غيض من فيض، ومواقف متفرّقة استعادتها ذاكرته على عجل: “فالتماهي كان صعباً جداً مع باسيل، والحريري لم يضغط بالشكل الكافي عليه بل أيّده في بعض المواقف، وكلّ اجتماع للّجنة الوزارية كان ينتهي من دون نتيجة، وطبعاً هذا كلّه من مفاعيل التسوية الرئاسية… فلولا النكد السياسي الذي مارسه باسيل وسايره فيه الحريري لكان الملفّ في غير مكان اليوم”.
إقرأ أيضاً: النزوح السوريّ (1/3): من يُخفي الداتا منذ 2011؟
تقاعس تشريعيّ – دبلوماسيّ
لا تتوقّف هنا العراقيل في ملفّ النازحين، فلا بدّ من الإشارة إلى التقصير التشريعي في هذا الإطار. إذ لم يشرّع لبنان أيّ قوانين خاصة تُعنى بالنزوح السوري. وشروط النزوح السوري في لبنان هي نفسها شروط التعاطي مع أيّ أجنبي في لبنان. بينما الفلسطينيون لديهم قانون خاص.
لم ينشأ توافق سياسي ولم توضع سياسات جدّيّة لتحديد معايير خاصة بالوجود السوري. تزامن هذا مع تقاعس دبلوماسي أيضاً. إذ لم تكن الدبلوماسية اللبنانية فعّالة على خطّ حلّ هذه الأزمة، ولم تتّبع سياسة خارجية واضحة وسليمة تجاه الملف أمام المجتمع الدولي، بل اعتمدت خطاب التسوّل والمؤامرة والتهويل بعيداً عن الموضوعية والإدارة والتنظيم، وتركت سوق العمل سائباً، ومن دون تنظيم، فكانت هذه المنافسة غير الطيّبة بين اللبنانيين والسوريين، مع أنّ سوق العمل اللبناني يحتاج إلى العمالة السورية، وسيكون هناك أزمة حقيقية في بعض المجالات من دون العمّال السوريين.
في الحلقة الثالثة والأخيرة غداً:
ما الذي تقدّمه الأمم المتحدة للنازحين في لبنان؟ ولماذا لا يريد النظام السوري عودة أبنائه؟