تتوالى تنازلات حكومة إقليم كردستان أمام “الدولة العميقة” في بغداد، إلى حدود موافقتها على وضع مسألة تصدير نفط الإقليم على طاولة التفاوض، وبالتالي القبول بمبدأ تسليم إنتاجية هذا القطاع للشركة الوطنية للتسويق “سومو” وأيضاً إشراف الحكومة الاتحادية على عائدات بيع النفط والتصرّف بها وخضوعها للرقابة المالية الاتحادية. وذلك بغضّ النظر عن الصيغة التي سترسو عليها بنود الميزانية. كما وافقت حكومة الأكراد على تولّي الحكومة الاتحادية الإشراف على المنافذ البرية والجوية في الإقليم وتحويل عائداتها إلى ماليّة الدولة.
تبرز أهمية هذا التحوُّل في العلاقة المالية بين المركز والإقليم، بعدما عجزت قيادة الإقليم عن الحؤول دون صدور موقف من المحكمة الاتحادية العليا ألغى قانون النفط والغاز مطلع العام الحالي. في حين تركت حكومة السوداني هذا الموضوع معلّقاً على حصول توافق حول القانون الجديد من دون تحديد توقيتات ومواعيد محدّدة. للبدء في تنفيذه.
ميزانية الدولة تشكّل الورقة الأهمّ في يد القوى السياسية لإثبات قدرتها على التحكّم في القرارات العامة، وحتى في استخدامها كسلاح للابتزاز السياسي وفرض التوجّهات والمواقف التي تنسجم مع مصالحها وتوفّر لها الغطاء للاستمرار في السيطرة والتحكّم
في هذه الأثناء يحاول الحزب الديمقراطي الذي يسيطر على مفاصل القرار في الإقليم إعادة تنظيم علاقاته مع الحكومة الاتحادية والانتقال بها إلى مستوى من الاستقرار والوضوح، وبالتالي تفكيك إحدى الأزمات الأكثر تعقيداً في هذه العلاقة. أما حزب الاتحاد الوطني “يكتي” بزعامة بافل طالباني فيبدو أكثر الأطراف الكردية ارتياحاً لإجراءات وقرارات الحكومة الاتحادية، وذلك على خلفية الصراع المحتدم بينه وبين الحزب الديمقراطي “بارتي” على تقاسم المصالح والسلطة في الإقليم.
طالباني يهدّد بالانفصال
هذه التنازلات دفعت إلى تصعيد الخلاف بين السليمانية (طالباني) وإربيل (بارزاني) في الأشهر الأخيرة إلى مستويات متقدّمة من الصراع، على خلفيّة اتّهامات طالباني لحكومة إربيل بالعمل على إقصاء القوى الكردية الشريكة في القرار والسلطة والمصالح والمكاسب. الأمر الذي دفع طالباني للحديث عن إمكانية انفصال السليمانية عن الإقليم والعودة إلى الحكومة الاتحادية في حال وجد عوائق أمام تشكيل إقليم جديد يضمّ السليمانية وحلبجة وكركوك.
القوى السياسية في بغداد التي تمسك بالدولة العميقة والقرارات، لم تُجاري طالباني في هذه المواقف. ليس من باب الحرص على وحدة الصف الكردي، بل من باب رفض أيّ واقع جديد قد يفرضه هذا التطوّر، لئلا تجد نفسها في مواجهة إقليمين بدل إقليم واحد، أو المزيد من المطالب والأثمان في حال انضمام هذه المحافظات إلى الحكومة الاتحادية.
الخطير بالنسبة إلى بغداد، أنّ هذا الانفصال قد يفتح الباب أمام مطالبة مكوّنات أخرى بتشكيل أقاليم جديدة، خاصة المكوّن السنّي في المحافظات الغربية. بالإضافة إلى أنّ بقاء السليمانية جزءاً من الإقليم وبقاء طالباني لاعباً وشريكاً في القرار الكردي، لا يسمحان بإطلاق يد “بارزاني” في الإقليم وأن يفرض شروطه على المركز. خاصة أنّ قيادة الإقليم وبارزاني بحاجة إلى حالة استقرار وترتيب صفوفهم استعداداً للانتخابات البرلمانية الخاصة بالإقليم، كي يحاول الحفاظ على تفوّقه وسيطرته على برلمان الإقليم الذي يوفّر الغطاء الدستوري والبرلماني للاستحواذ على الحكومة ووزاراتها الأساسية.
استغلال “الظروف الدولية” لـ”زرك” الأكراد
في العودة إلى تفاصيل “الحراك” السياسي في بغداد، ربّما يكون الجدل الذي شهدته الساحة العراقية في الأسابيع الأخيرة حول ميزانية الدولة للأعوام الثلاثة المقبلة، التي تقدّم بها رئيس الوزراء محمد شياع السوداني لإقرارها في البرلمان، هو المؤشّر الأبرز إلى ما تتمتّع به هذه الدولة العميقة. إذ يبدو أنّ قاعدتها توسّعت بحيث لم تعد مقتصرة على جهة واحدة يمثّلها الكادر المحسوب على ائتلاف دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، بل باتت تشمل معه كلّ القوى السياسية من مختلف المكوّنات الإثنية والمذهبية، بما فيها جماعة التيار الصدري بقيادة مقتدى الصدر على الرغم من إعلان انسحابه من العملية السياسية، وحكومة الإقليم الكردي.
فقد شكّل الجدل حول الميزانية مدخلاً للقوى والأحزاب والدولة العميقة التي تقودها وتمسك بها، فرصة لها لابتزاز قيادة الإقليم، خاصة الحزب الديمقراطي الكردستاني “بارتي”. وقد استفادت “الدولة العميقة” من الأجواء الدولية والإقليمية الداعمة لحكومة السوداني، وإمكانية تعرُّض أيّ طرف، يعمل على تعطيل أو شلّ الحكومة والمساهمة في إعادة الفوضى وضرب الاستقرار القائم، للمحاصرة وحتى فرض العقوبات. والهدف هو الحصول من الإقليم على ما لم تستطع الحكومات السابقة الحصول عليه، والتخفيف من تأثير مواقف الإقليم على المركز والحكومة الاتحاديَّين.
تتوالى تنازلات حكومة إقليم كردستان أمام “الدولة العميقة” في بغداد، إلى حدود موافقتها على وضع مسألة تصدير نفط الإقليم على طاولة التفاوض، وبالتالي القبول بمبدأ تسليم إنتاجية هذا القطاع للشركة الوطنية للتسويق “سومو”
المالكي يريد “الإمساك” بالموازنة
لكنّ المالكي، في جلسة دردشة مع بعض القيادات في الدولة، اعتبر أكّد أنّ الميزانية التي تقدّم بها السوداني ستقرّ على الرغم من التحفّظات التي تصدر عن بعض الجهات، خاصة أعضاء اللجنة المالية في البرلمان. لكنّه استدرك بأنّ السوداني لن يحصل على ما يطمح إليه بإقرار ميزانية لثلاث سنوات دفعة واحدة وبقرار واحد. وكشف أنّه سيتمّ إدخال تعديل على نصّ المشروع المقدّم بإلزامية الحصول على موافقة البرلمان مع بداية كلّ سنة مالية جديدة، بحيث لا يتحوّل البرلمان والقوى والكتل النيابية التي تمثّل القوى السياسية إلى مجرّد أداة ينتهي مفعولها مع نهاية النقاشات البرلمانية حول موادّ الميزانية وإقرارها.
القوى السياسية، وفي استعراض لمدى نفوذها وقدرتها على التحكّم بالمسارات القانونية، ذهبت إلى البرلمان تحمل معها المشروع الذي تقدّمت به الحكومة بداية، وأسقطت من حساباتها النسخة التي تحمل تعديلات اللجنة المالية البرلمانية خلال الأسابيع الماضية، خاصة تلك المتعلّقة بالعلاقة المالية بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان حول آليّات التعامل مع عائدات بيع نفط الإقليم التي تبلغ نحو 400 ألف برميل. فضلاً عن تولّي أجهزة الحكومة الاتحادية مسؤولية الإشراف على المنافذ البرية والجوية في الإقليم وتسليم عائداتها أيضاً للحكومة الاتحادية.
الأطراف السياسية المشكِّلة للحكومة التي استطاعت تعطيل عمل اللجنة المالية في البرلمان، هدّدت على لسان وزيرة المالية طيف سامي باللجوء إلى المحكمة الاتحادية العليا للطعن بأيّ ميزانية يقرّها البرلمان تختلف عن الميزانية التي تقدّمت بها الحكومة. أي أنّ الأطراف والأحزاب السياسية القابضة على الدولة، أعلنت التزامها بالاتفاق الذي عقده السوداني مع رئيس الإقليم نيجرفان بارزاني ورئيس الوزراء مسرور بارزاني، بعد نقاشات داخل “الإطار التنسيقي” الممثّل للمكوّن الشيعي الداعم للسوداني.
ميزانية الدولة تشكّل الورقة الأهمّ في يد القوى السياسية لإثبات قدرتها على التحكّم في القرارات العامة، وحتى في استخدامها كسلاح للابتزاز السياسي وفرض التوجّهات والمواقف التي تنسجم مع مصالحها وتوفّر لها الغطاء للاستمرار في السيطرة والتحكّم.
وقد أظهر الجدل حول الميزانية، خاصة في الموادّ المرتبطة بإقليم كردستان وتنظيم العلاقة معه، كمّاً كبيراً من انعدام الثقة بين المركز والإقليم. هذا على الرغم من الشراكة التي قامت بين “الإطار التنسيقي” والأحزاب الكردية الأساسية (الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني والاتحاد الوطني بقيادة بافل طالباني) في تشكيل ائتلاف “إدارة الدولة” الذي انبثقت عنه الحكومة القائمة.
إقرأ أيضاً: سلطان عُمان في طهران.. حاملاً كلمة سرّ أميركيّة
هكذا أثبتت الدولة العميقة في السلطة العراقية أنّها ما زالت الأقدر على التحكّم بالمسارات السياسية، وأنّ كلّ الضربات التي تعرّضت لها والأزمات التي مرّت بها لم تؤدِّ إلى تراجع نفوذها والإمساك بمفاصل القرار على مختلف المستويات، بل استطاعت أن تضمّ “خصومها” إلى معسكرها، من الصدر إلى الأكراد…