تشتدّ الحيرة بمن كان عروبياً مصري الهوى، وفلسطينياً فتحاوي القضية، وسعودي الولاء السياسي، كيف استطاع أن يغيّر وجه هذه المحافظة دينياً، وأن يشارك الناس في شؤون الحياة العامة، وأن يلعب دوراً استثنائياً وكبيراً في صنع القرار، في القضايا الاجتماعية والسياسية والأمنية، بما يفوق أدوار وزراء ونواب ضمن الطائفة السنية في المنطقة. هذا الدور كان مكتوباً على بداية سلوكه عنوان الهلاك، ولكن حنكة المفتي خليل الميس جعلته طريق جلجلة للنجاة.
سبل الهلاك فيه تنوّعت صورها، وكثرت ألوانها، وتعدّدت وسائلها، فيكفي أن تكون جاراً لعنجر رمز الوصاية السورية، ومفتياً لمحافظة البقاع، التي عوملت على أنها تابعة لمحافظة ريف دمشق السورية لا باعتبارها محافظة لبنانية، حتّى أمكننا القول فيه ما قاله أحد الصالحين لابنه: “يا بنيّ، لا تعجب ممن هلك كيف هلك، ولكن اعجب ممن نجا كيف نجا”.
إقرأ أيضاً: السيّد محمد حسن الأمين: الشاعر الإصلاحي.. الشيخ المدنيّ
هناك مقياس زمني مختلف لكلّ عمر أو سنّ: هو أن يتضمّن موقعاً في الزمن، فلا يقدّر عمر الإنسان بالسنين التى عاشها على وجه هذه الأرض وما تدوّنه شهادة الميلاد، ولكن يحسب بما قدّمه لهذه الحياة من فكر مستنير وخير. وكما أن الإنسان في الآخرة سوف يحاسب بقدر ما لديه من أعمال صالحة أو طالحة، كذلك الحال في الدنيا. فكيف بمن بقي عطاؤه شاباً وقوياً، وإن شاب وضعف جسمه، وتقدّم في السنّ ووهن عظمه.
العطاء من غير الموانع لا يُتعجَّب منه، وإنما العجب من القدرة على العطاء مع كثرة النوازل والأعاصير. وهذا ما ينطبق على سماحة المفتي الشيخ خليل الميس (ولد عام 1941 في بلدة مكسه البقاعية)، والذي شهد منذ قدومه خرّيجاً من أزهر مصر عام 1972 وتعيينه في عضوية المجلس الإسلامي الأعلى في العام 1975 إلى الآن، تحوّلات وتغيّرات عميقة، شملت مختلف الأبعاد والمستويات الدينية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.
في محافظة البقاع، ضعفت الأحزاب السياسية، والحركات الإسلامية، والشخصيات الاجتماعية بتأثير من الضغوط أو الاستهداف. لكنّ المفتي الميس في طريقة عمله أو في ترتيب أولوياته، كان يتحوّل كي لا يموت أو يندثر. فهو يعيد تجديد نفسه ولو بشروط أخرى أو برؤية تتلاءم معها رفضًا أو قبولًا، ليبقى، أو ليحافظ على المؤسسة التي يبني ويريدها أن تستمرّ.
من أهم ما يميّز منهج سماحته، مما اكتسبه من تخصّصه في علم أصول الفقه، هو التعمّق في فقه الظرف والحال قياساً على أصحاب المسائل والاستفتاءات، والتي تتعدّد وتتناقض أحوالهم. فاختلاف الظرف، واختلاف الحال، يقتضي اختلاف الإجابة، مما يربك ذوي النظر القاصر، ولا يجدون إجابة عن هذا التساؤل: لماذا تتعدّد المواقف السياسية من قضايا ذات المضمون الواحد (موقفه من سوريا وإيران والحريرية السياسية وخصومها، التحوّلات والتغيّرات العميقة، والتي شهدتها محافظة البقاع منذ تولّيه منصب الإفتاء فيها عام 1985، والتي شملت مختلف الأبعاد والمستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، إلى الآن).
الترجيح والاعتبار عنده يتعلّقان بفقه الحال، وفقه الظرف، حال قوّة الخصم، والظرف المناسب لقطف ثمرته وبقائه فاعلاً. فما هو راجح قد يصبح مرجوحاً بتغيّر المعطى الحالي والظرفي، والعكس أيضاً صحيح. تموّجات مواقفه السياسية وأبعاد تحدّياتها وترجماتها أثمرت في أرض التحقّق والإنجاز، وتجلّت عطاءاتها في بناء مؤسسة ستغيّر وجه البقاع دينيًّا، وتصونه من داء التطرّف والتشتّت، وأقصد هنا المعهد الديني أزهر البقاع في عهد المفتي الشيخ حسن خالد رحمه الله. قرّر الشيخ خليل الميس إنشاء أزهر البقاع، وجعله امتداداً للأزهر الشريف في مصر، من حيث المستوى العلمي والتنظيم الإداري، وليكون منارة للثقافة الإسلامية في لبنان. أزهر البقاع: المعهد الديني السني الذي كان له الأثر الكبير في النهوض الديني في محافظة البقاع (خصوصاً المسلمين السنّة شرق لبنان: من شبعا إلى عرسال) .
أن تفتح معهدًا دينيًّا في ظلّ الوصاية السورية، وعلى بعد سنوات من أحداث حماة، فهذا قرار جريء. وأن يكون من المدرّسين في هذا المعهد رجال دين ينتمون إلى المدرسة السلفية والمدرسة الإخوانية، فهذه قمة المغامرة (كنتُ طالبًا في أزهر البقاع، وممّن درّسني شيوخ من رموز المدرسة السلفية في البقاع، وشيوخ من الجماعة الإسلامية والتي تعتبر فرعاً للإخوان المسلمين، إضافة إلى شيوخ من المدرسة الشامية، وإن تغيّر الوضع في بعض السنوات وحصلت حملة (تطهير) للمدرّسين، واستُبعد عدد من الشيوخ بحسب التصنيف الحركي لهم).
في فترة الثمانينيات من القرن الماضي برز العامل المؤثّر الديني في الحياة العامة في محافظة البقاع بشكل ملحوظ، وغياب تأثير الأحزاب والقوى اليسارية والقومية والناصرية والشيوعية بعد سنوات الستينيات والسبعينيات التي شهدت مؤشرات من ابتعاد الدين عن المجال العام واقتصاره على الممارسات الفردية وبروز تأثير قوي للأحزاب المذكورة.
يمكننا هنا ملاحظة أن هذه العودة استقبلت برضى من الجهة المهيمنة (النظام السوري الذي دخل لبنان 1976/ 2005 وبلدة عنجر – مقرّ القرار السوري في لبنان – ومعمل البصل – رمز استخدام العنف في تلك الفترة في المنطقة) لأسباب كثيرة منها:
النظام السوري المسيطر على الوضع في تلك الفترة، تعامل مع العامل الديني من خلال مقاربته الأمنية، والقبول في المرحلة الأولى (إلى العام 2000) بدور في المجال الديني فقط عبر المدرسة الشامية، الرافضة للعنف، من أجل استخدامها في مواجهة التيار السلفي أو الإخواني (النموذج المحبّب للنظام السوري بعد أحداث حماه)، وفي مواجهة الأحزاب اليسارية والوطنية.
المشهد سيتغيّر مع اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في عام 2005 والذي ترك تأثيرات كبيرة ليس في محافظة البقاع وحدها، بل في لبنان بأكمله
تعامل النظام السوري مع الجماعات الدينية على أسس أمنية بحتة، تقوم على مبدأ التفاوض والتوازنات الاجتماعية الداخلية وضبط صارم لها، ثم تطوّرت آلية استغلاله لتدبير بعض الأزمات.
بالمختصر، القبضة السورية الأمنية كانت مؤثّرة في الحالة الدينية، وازداد دور رجال الدين الموالين لها في المجتمع، وازدادت تالياً طموحاتهم السياسية والعمل على استلام المناصب أو نشر نهج مدارسهم الفكرية الدينية. وأصبحوا خدماً في ميدان السياسة أو تابعين لها، وبينما كان الدور الاجتماعي الديني محطّ تقدير الفرد في المجتمع أولاً، أصبح هناك ارتهان للقرار السياسي وعدم ثقة بدوره الديني.
لكنّ المشهد سيتغيّر مع اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في عام 2005 والذي ترك تأثيرات كبيرة ليس في محافظة البقاع وحدها، بل في لبنان بأكمله. نجحت المتغيّرات السياسية نتيجة اغتيال الرئيس الحريري في 14 شباط 2005 في إحداث تطوّرات وانقلابات دراماتيكية، في التوجّهات والتحالفات السياسية في لبنان. ونجحت في رسم مشهد جديد للحياة السياسية المحلية.
أصبحت المعادلة الداخلية معقّدة بعض الشيء:
– خرجت القبضة السورية الأمنية التي كانت مؤثّرة في الحالة الدينية في لبنان.
– بروز مزاج شعبي سني، وبروز مشايخ يتحدّثون بخطاب ديني محلي لبناني، منهم مشايخ دار الفتوى التقليديين، مع أنّ بعض هؤلاء المشايخ يعتبرون الحريري مخالفاً لخطهم الديني، ولكن وجدوا أنفسهم معنيين بالوضع القائم من باب استهداف السنّة، ومظلوميتهم، واستعادة أحداث الضنية، والاغتيالات التي طالت سابقاً شخصيّات سنيّة مثل مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ حسن خالد.
منذ هذا التاريخ، أي عام 2005، ظهر بقوة استخدام المساجد وخطب الجمعة لعلماء ينتمون للمؤسسة الرسمية الدينية (دار الفتوى)، وتستخدم خطابًا شعبويًّا، لكنّها لم تستطع الاستقلالية عن المؤسسة السياسية، وأصبحت معادلة «علماء دار الفتوى» محكومة برغبة السياسي (السياسي السنيّ)، وتتصرّف تحت تأثيره. وأصبحنا نرى ظاهرة «الشيوخ السياسيين». الذين يدورون مع السياسي حيث دار!. وبالتّالي، جعلت رجال الدّين يبدون مجرّد أُجراء يفتقرون إلى تمثيل حقيقي، ولا يمثّلون المزاج الحقيقي للشارع السنّي، وإنما حاجة السياسي بسبب سعيه إلى زيادة سيطرته، وهي ديناميكيّة قوّضت بالفعل صدقيّة المؤسسة الدينية السنية وشلّتها إلى حدّ كبير.
لكنّ المفتي الشيخ خليل الميس برز بنوع جديد من التأثير: خطاب لم يقطع العلاقة مع المكوّن السني المعارض للحريري الابن في البقاع (عبد الرحيم مراد). وخرّيجو المعهد الديني الذي رعاه كما يرعى الأب ابنه: أزهر البقاع، هؤلاء الخرّيجون والذين يحملون صفة شيخ ورجل دين، كانوا خارج إطار مفاهيم المدارس الدينية التقليدية: السلفية أو الشامية، وخارج سيطرة المؤسسة الرسمية التقليدية وتوجّهاتها. وبعضهم ينتسب إلى حركات إسلامية ويعمل ضمن المؤسسة الدينية الرسمية إلا أنّهم يتمتعون بقدر من الاستقلال الذاتي، ما جعل تأثير المفتي الميس يتجدّد رغم الأعاصير التي عصفت بالطائفة السنية.
في الختام، نكرّر: لا يقدّر عمر الإنسان بالسنين التى عاشها على وجه هذه الأرض، وما تدوّنه شهادة الميلاد، ولكن يحسب بما قدّمه لهذه الحياة، ومؤسساته سماحة المفتي الشيخ خليل التي بناها، تضع بصمته التي لا ينساها البقاع ولبنان وأهله، ولا تُمحى من على جبين التاريخ.