المفتي الشيخ حسن خالد (2/1): الشخصية والرسالة والخير العام

مدة القراءة 7 د


أذكر أنّ المرة الأولى التي سمعت فيها تعبير “الخير العام” كانت عام 1964 من فم الشيخ حسن خالد، وكان وقتها قاضياً شرعياً في جبل لبنان (محكمة شحيم)، ويدرّسنا بالمعهد الديني ببيروت (الكلية الشرعية أو أزهر لبنان) مادة التوحيد أو العقيدة. أما أستاذنا البارز الآخر فكان الشيخ محمد فهيم أبو عبية، رئيس البعثة الأزهرية، وكان يدرّسنا مادة التفسير. وقد بقيت هذه المسألة في خَلدي لأنّ نقاشاً دار بين الأساتذة في الندوة الجماعية الرمضانية بالمعهد. وكان الشيخ يؤْثِر المصطلح القرآني المعروف: “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، باعتبار ذلك مهمتنا نحن علماء الدين أخذاً من قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وأولئك هم المفلحون}. أما القاضي خالد فقال إنّه لا مُشاحّة في الإصطلاح، لكنّ مفرد الخير أعمّ وهو يشمل الزكاة والصدقات وسائر أعمال البرّ وما له علاقةٌ بالشأن العام والمصالح الكبرى والأساسية للناس، وطنية كانت أو دينية. وقد تكرّر المصطلح في القرآن مئات المرات. وأضاف أنّه يفكّر في كتابة كتابٍ عن نظرية الخير في الإسلام. وأذكر أنّ الشيخ فهيم قال لنا وهو خارج من القاعة ونحن محيطون به: “معروفٌ أو خيرٌ كما يريد الشيخ حسن، شوفوا يا أولاد: ضعوا عيونكم على حسن خالد فهو الأمل في الإصلاح”.

إقرأ أيضاً: رمضانيات (1): أحمد اللدن … عمامةٌ على رأس جبل

لقد صحّت نبوءة الشيخ فهيم أو خطّته، لأنّ السفير المصري الشهير عبد الحميد غالب، يعاونه الشيخ فهيم باعتبار نفوذه في أوساط رجال الدين اللبنانيين الذين يشاركون في انتخاب المفتي، إلى جانب شبان العروبة الناصرية آنذاك وبينهم فيما أذكر الدكتور صبحي الصالح، وعزت حرب، وحسين القوتلي، ومحمد بركات، ومصطفى منصور، وعشرات آخرون من زملائهم؛ هؤلاء جميعاً قاموا بعملٍ “ثوري” خلال سنةٍ ونصف: طلبوا من المفتي الشيخ محمد علايا رحمه الله الاستقالة، وأزاحوا من الطريق الشيخ شفيق يموت رئيس المحكمة الشرعية الذي كان شديد الطموح، ودعوا لانتخاباتٍ لمنصب مفتي الجمهورية من جانب الهيئة العامة للمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى، فاز فيها الشيخ حسن خالد بأكثريةٍ كبرى عام 1966. وفي العام نفسه أكمل المفتي خالد انتصاره بزيارة مصر بدعوةٍ من الرئيس جمال عبد الناصر حيث استقبل بالمطار وبالجامع الأزهر من جمهورٍ حاشد، وخطب الجمعة بالأزهر، واستقبله الرئيس جمال عبد الناصر مرّتين. وقد جمعنا المفتي بقاعة الفندق بالقاهرة (وكنّا جميعاً نحن الذين درّسَنا الشيخ حسن في بيروت قد ذهبنا في عامي 1965 و1966 للدراسة بكليات الأزهر بمنح من مصر ومن دار الفتوى) وقال لنا إنّنا على موعدٍ مع الإصلاح والتجديد، وينبغي أن تتقدّم لدينا اعتبارات الرسالة على اعتبارات الوظيفة. ولولا هذه الآمال بالنهوض لآثر البقاء في منصبه القضائي.

لقد بدأ المفتي خالد التجديد المؤسسي بالفعل فأتى بقضاةٍ جددٍ، وغيّر إدارة المعهد الديني، وإدارة الأوقاف. بيد أنّ هزيمة العام 1967 عاجلت الجميع، فانحسر النفوذ المصري السياسي والديني عن لبنان، كما انحسرت الشهابية التي كان المفتي محسوباً عليها، في انتخابات العام 1968. ثم بدأ صراعٌ على رئاسة “المقاصد” لا أدري لماذا تورّط المفتي فيه. فحصل نوعٌ من الانكفاء ضاءلَ من إجراءات وتصرّفات الإصلاح والانتفاح. وقد قال لي المفتي عام 1970 وكنتُ قد عدتُ وتوظفتُ بدار الفتوى: “كل المشروعات الإصلاحية تمرّ بمدٍّ وجزر، لا ينبغي تضييع البوصلة. لقد صار لدار الفتوى عقلٌ، ونريد الآن أن يكون لها لسان. لذلك ارتأينا أنا والشيخ صبحي الصالح والدكتور حسين القوتلي أن ننشئ مجلة أكاديمية وثقافية تكون ناطقة باسم دار الفتوى اسمها: الفكر الإسلامي، ويكون رئيس تحريرها الشيخ عبد الله العلايلي وسكرتير تحريرها أنت رضوان السيد، فقد أعجبتنا المقالات التي كتبتها من القاهرة لعددي صفر (1)، وصفر (2) من المجلة”.

وقد مضينا في المجلة مُضياً ممتازاً، واستكتبتُ فيها أساتذتي بالأزهر، ودعوتُ لدار الفتوى أستاذي الدكتور عبد الحليم محمود الذي صار شيخاً للأزهر، فخطب أيضاً في الحفل السنوي للمقاصد، والذي رجوتُ من ورائه تحسين العلاقة بين الرئيس صائب سلام والمفتي خالد. كما دعونا الدكتور محمد البهي للمحاضرة بدار الفتوى عن العلمانية، حيث تناقش مع الدكتور حسن صعب – كما تناقش مع آخرين في مسألة البنوك الإسلامية. وبالطبع فإنّ المفتي خالد كان يترأس كل المناقشات ويشارك فيها.

في صيف العام 1972 سافرتُ لدراسة الدكتوراه بألمانيا. وقد ساعدني المفتي والشيخ طه الولي في الحصول على المنحة الدراسية هناك. ولأنّه كان يتابعني مع الدكتور القوتلي، فقد كتب لي بعد عدة أشهر إذا كان من الممكن دعوة رئيس مؤسسة “أديناور” التي أعطتني المنحة للبنان، رجاء الحصول على مِنَح اُخرى لشبّان الدراسات الدينية بألمانيا. وقد حصل ذلك بالفعل وأرسلت دار الفتوى زملاء آخرين حصلوا مثلي على الدكتوراه. وعندما عدتُ عام 1977 وتوظّفت بالجامعة اللبنانية، صرت أتردّد على الدار وأُشارك في التفكير والكتابة.

فيما بين الستينات والثمانينات، وقد تعاملت مع الشيخ حسن خالد خلالها أستاذاً ومفتياً وعاملاً في الشأن العام، شهدتُ اختلافه بالفعل عن رجالات الوسط الديني في لبنان. فشخصيته تبعث على الهيبة والاحترام والثقة. ولديه وعيٌ قوي بأنّه يمتلك مهمة يكون عليه أن يؤدّيها في المجال الديني والمجال الوطني. وهو يتردّد كثيراً في الخوض في أيّ مسألة عامة، لكنّه إذا قرّر فإنّه يهتم بأدق التفاصيل. ورغم اعتباره أنّ العمل في الشأن العام يدخل ضمن مهمات الخير العامّ لحفظ المجتمع، فقد اشتدّت به الحيرة سواء لجهة العمل الفلسطيني المسلّح من لبنان ثم لجهة التدخل السوري بلبنان. وبعد الانكفاء المصري، وضع ثقته في المظلّة السعودية. وكان يزعجه أنّه لا يمكن التشاور مع السعوديين في كل مسألةٍ عارضة، ولذلك سرّه أن يظهر رفيق الحريري وسيطاً سعودياً يمكن التشاور معه في كل وقت بعد نقل السفير علي الشاعر وصيرورته وزيراً للإعلام، فمع الحريري يمكن الاختلاف دونما خشية من إغضاب المرجعية.

كان يرى أنّ الكفاح الفلسطيني والمطامع السورية أكثر من طاقة المسلمين واللبنانيين وقدراتهم وقدرات بلادهم على التحمل

وقد عرفتُ من حديثٍ له مع النائب إدوار حنين، وحديثٍ آخر مع ياسر عرفات، أنّه كان ضد اتفاق القاهرة عام 1969، وأنّه أبلغ ذلك لجمال عبد الناصر. وكان شديد الحبّ لكمال جنبلاط وللشيخ محمد مهدي شمس الدين ولاحقاً للبطريرك صفير الذي لم تطل صحبته له بسبب استشهاده عام 1989 في حين صار صفير بطريركاً عام 1985.

عندما اغتيل كمال جنبلاط؛ فقد كانت تلك ليلة ليلاء على حسن خالد. وقد اتصل في الليلة نفسها بصائب سلام ومحمد مهدي شمس الدين وحذّرهما، فقال له شمس الدين: “مع أنّه لا يُنجي حَذَرٌ من قَدَر، أرى أنّ عليك أنت أن تكون الأشدّ حَذَراً!”.

وكان يرى أنّ الكفاح الفلسطيني والمطامع السورية أكثر من طاقة المسلمين واللبنانيين وقدراتهم وقدرات بلادهم على التحمل. وقد قال مرّة للرئيس شفيق الوزّان وللشيخ شمس الدين: “الفلسطينيون يتحدثون باسم المسلمين مع المسيحيين، والسوريون يتحدثون مع المجتمع الدولي باسم اللبنانيين والفلسطينيين، وكلا الطرفين يطلبون الثمن من السعوديين ومن الأميركان والفرنسيين. وهذا الأمر كلّه غير طبيعي، فلا بد من وحدةٍ مستعادةٍ بين المسلمين والمسيحيين لكي نكون دولةً مستقلةً تتحدث مباشرةً إلى الجميع وبدون حاجة إلى وسطاء لا يلتمسون في الحقيقة غير مصالحهم هم!”.

ما كان “المفدي” (هكذا كان أهل بيروت يسمّونه منذ أواخر السبعينات وإلى اليوم) حسن خالد يحبّ الاجتماعات الكثيرة ولا الكبيرة. لكنّ الانسحاب الإسرائيلي من بيروت، والذي حصل قبله الانسحابان الفلسطيني ثم السوري، ودخول قوات الرئيس أمين الجميّل إلى المدينة المنكوبة فاتحةً، ترك فراغاً واحتقاناً، وفرض تحدّيات، وقعت كلها على عاتق “المفدي” خالد ومحمد مهدي شمس الدين! وذلك لأنّهما كانا فوق نزاعات الأطراف المشاركة في الحرب والسياسيين غير المشاركين. وهكذا حفلت دار الفتوى بشتّى أنواع الاجتماعات بين عامي 1982 و1988.

حلقة ثانية غداً

مواضيع ذات صلة

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…