موقفان مسيحيان صدرا الأحد أشّرا مرّة أخرى على حجم التحوّلات والهواجس التي يخلّفها الانهيار المالي والأزمة السياسية في الأوساط المسيحية، الأوّل من البطريرك الماروني بشارة الراعي الذي تخوّف من أن يكون “هذا التمادي في تعطيل تشكيل الحكومة والاستهتار بمصالح الشعب والوطن جزء من مشروع إسقاط دولة لبنان الكبير لوضع اليد على مخلّفاتها”، والثاني لرئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع اعتبر أنّ “المطلوب منّا اليوم المقاومة لأنّنا بوضعية مشابهة للعام 1975، خصوصاً أنّ الشعب اللبناني يتحمّل كلّ ذلك لأنّ محور المقاومة ينفّذ خطة واضحة المعالم لوضع اليد على السلطة في البلد”.
في الواقع، تطال تداعيات الأزمة كلّ لبناني، فالتفاوت في الضرر هنا ليس تفاوتاً طائفياً، بل طبقياً في الأساس، وإن كانت المستويات الطبقية قد اختلت اختلالاً كبيراً مع قضاء الأزمة على ما تبقّى من طبقة وسطى، فغدا البلد مقسوماً إلى حدّ بعيد بين فئتين: الأغنياء، وهم وإن تضرّروا من الأزمة إلّا أنّ قدرتهم على الصمود بوجهها تتجاوز بما لا يقاس قدرة الطبقات الاجتماعية الدنيا التي قلب الفالج المالي حياتها رأساً على عقب، إذ وجدت نفسها فجأة تواجه مصيراً لم تتوقّعه، ولا تمتلك الأدوات النفسية والمادية لمواجهته.
لكن، وبالنظر إلى طبيعة النظام اللبناني بالمعنى الواسع لكلمة نظام، فإنّ مقاربة الأزمة لا تحصل على مستوى الأفراد وحسب، بل الجماعات أيضاً. وليس بلا دلالة في السياق حديث مقرّب من وزير الخارجية الفرنسية لـ”فرانس أنفو” أخيراً عن “هجرة المسيحيين والأغنياء” من لبنان بسبب الأزمة والانفجار في المرفأ. فعملياً، لا يمكن الفصل تماماً بين الدينامية الفردية والدينامية الطائفية في لبنان، بالنظر إلى أنّ الطائفة تقوم في الأصل على هيكلية اجتماعية وعلى نظام مصلحة سياسي / اقتصادي، يتمثّل تحديداً في ما يسمّى بالقطاع الخاص.
لقد ساد رأيان في مقاربة تبعات الأزمة من الوجهة الطائفية:
– الأول يقول إنّ الطائفة الشيعية التي بات “حزب الله” ممتلكاً لمجمل حيّزاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، هي الأقدر على مواجهة الأزمة، وذلك بالنظر إلى أنّ الحزب وفقاً لطبيعته التنظيمية والتعبوية، ولتعدّد مصادر دخله، قادر على الصمود والاستمرار أكثر من سواه في مدّ أنصاره بأسباب العيش.
– أمّا الرأي الثاني، فيقول إنّ المسيحيين هم الأكثر ضعفاً في مواجهة الأزمة، وذلك بالنظر إلى انقسام مؤسستهم السياسية، وانفراط هيكليتهم الاجتماعية التقليدية قياساً بالجماعات الأخرى، والأهمّ أنّه لا ظهير إقليمياً أو دولياً لهم وهو نفس حالي السنّة.
تطال تداعيات الأزمة كلّ لبناني، فالتفاوت في الضرر هنا ليس تفاوتاً طائفياً، بل طبقياً في الأساس، وإن كانت المستويات الطبقية قد اختلت اختلالاً كبيراً مع قضاء الأزمة على ما تبقّى من طبقة وسطى
والحال، فإنّ المسيحيين، وبالرغم من تراجع نفوذهم السياسي في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، إلّا أنّهم حافظوا على موقع رئيسي في البنية الاقتصادية في البلد، ولاسيّما في القطاعات الأساسية الموروثة منذ ما قبل 1975، وخصوصاً المصارف (وإن شهدت تضخّماً غير مسبوق في العقدين الماضيين)، والمستشفيات، والمدارس، والجامعات. وهذه القطاعات تحديداً تواجه اليوم، بفعل الأزمة، تحدّياتٍ صعبة جداً، إن لم يكن مصيراً قاتماً.
لذلك، هناك شعور متنامٍ لدى المسيحيين بأنّ ضرر الأزمة واقعٌ عليهم أولّا، وقد فاقم هذا الشعور انفجار المرفأ الذي أصاب مناطق تسكنها غالبية مسيحية في العاصمة. وهذا الشعور بدأ يدفع هؤلاء أكثر فأكثر نحو إجراء مراجعات لكلّ المسار السياسي والاقتصادي / الاجتماعي في لبنان أقلّه منذ العام 1990. هنا يبرز رأي يقول إنّ الموروث الاقتصادي والثقافي / الرمزي للبنان، والذي كان للمسيحيين مركز ثقل رئيسي فيه، ما كان مهدّداً في يوم من الأيام مثلما هو اليوم.
بالعودة إلى ما قبل الاستقلال، فإنّ تلاقي مصالح البرجوازية المسيحية والبرجوازية الإسلامية وخصوصاً السنية في بيروت وطرابلس، كان عاملاً أساسياً في جعل الكيان اللبناني قابلاً للحياة. ثمّ كانت الحرب التي وعلى الرغم من التغيرات الديموغرافية والتقسيمات الجغرافية التي شهدتها، إلّا أّنها لم تسقط الخصائص الأساسية للنموذج الإقتصادي الموروث وإن عطّلته.
فما إن انتهت الحرب حتّى أُعيد انتاج هذا النموذج بنسخة محدّثة، ووفق مقتضيات المرحلة الإقليمية والدولية الجديدة. فكان مشروع “إعادة الاعمار” الذي قاده الرئيس رفيق الحريري والذي ترافق مع استئناف النموذج الاقتصادي القديم نشاطه مع دور أكبر ومختلف للقطاع المصرفي. وفي كلّ ذلك لم تشعر البرجوازية المسيحية العميقة بتهديد فعلي على “مصالحها”. شعرت بالمنافسة والتوتر أحياناً، لكنّ رفيق الحريري سرعان ما استوعبها. لذلك، لم يشعر المسيحيون في الغالب الأعمّ بتهديد جدّي ضدّ مراكز نفوذهم الاقتصادية، وإن كانت الآلة المخابراتية النشطة وقتذاك قد نجحت في خلق مناخ مسيحي شعبي مناوئ لـ”الحريرية”. وقد أشيع أنّ هدفها “أسلمة الأرض”، ومن ذلك ما أثير عن نيّة الحريري شراء “جامعة الكسليك”. لكن في المحصّلة، فإنّ الحريرية أخذت بالنموذج الاقتصادي والثقافي للبنان ما قبل الحرب وهو “ذو وجه مسيحي” إلى حدّ بعيد، وبالأخص فيما يتصّل بنظرية ميشال شيحا عن “لبنان المتوسطي” و”صلة الوصل بين الشرق والغرب”.
هناك شعور متنامٍ لدى المسيحيين بأنّ ضرر الأزمة واقعٌ عليهم أولّا، وقد فاقم هذا الشعور انفجار المرفأ الذي أصاب مناطق تسكنها غالبية مسيحية في العاصمة
أمّا الأزمة الحالية، فقد أطاحت أو تكاد بالنموذج الاقتصادي الموروث، لا بنسخته المحدّثة التي أظهرت الأزمة اختلالاته البنيوية لاسيّما في ما يخصّ القطاع المصرفي، بل في أصله ذاته. ولذلك، فإنّ المسيحيين وجدوا أنفسهم هذه المرّة أمام تهديد حقيقي بخسارة رصيدهم الرمزي والثقافي قبل رصيدهم المادي. وإذا كانوا في بداية الأزمة يقرأون فصول الانهيار المتوالية بعيون تقنية متّصلة بأعطاب النموذج الاقتصادي والفساد، فهم الآن باتوا يقرأونها بعيون سياسيّة لناحية أنّ لبنان واقع تحت حصار عربي ودوليّ بسبب سياسته الخارجية المتماهية مع سياسات “حزب الله” الذي تتّهمه دول عربية وأجنبية في مقدّمتها أميركا بتعريض أمنها القومي للخطر. وقد أتت العقوبات على النائب جبران باسيل لتسند هذه القراءة بحجّة رئيسية، إذ أضاءت فعلياً على اغتراب “التيار الوطني الحرّ” عن المسار التاريخي للمسيحيين كجماعة منجذبة إلى الغرب، على التباسات هذا الانجذاب الكثيرة. وهو اغتراب شرع باسيل، منذ لحظة وقوع العقوبات عليه، بمحاولة استدراكه. وما إطلالته على قناة “العربية الحدث” الإثنين الفائت سوى محطّة أوليّة في رحلة الاستدراك تلك.
إقرأ أيضاً: لماذا صمتت القوى المسيحية عن العقوبات على باسيل؟
في المحصّلة، فإنّ تلاقي موقفي الراعي وجعجع على التحذير من “مشروع إسقاط الدولة” و”وضع اليد على البلد”، يحاكي الهواجس المسيحية المتنامية والتبدّل العميق في القراءة المسيحية لأسباب الأزمة وتبعاتها. وليس مصادفة في السياق أن تتراجع نغمة “تركة الثلاثين سنة الماضية” التي دأب التيار العوني على تردادها طيلة الفترة الماضية. فالحديث اليوم بين نخب التيار ليس سوى عن العلاقة مع “حزب الله”، نتائجها ومستقبلها. وإذا كانت الأمور في خواتيمها، فإنّ ما يمكن جمعه من مؤشّرات عن التبدّلات في المزاج المسيحي عموماً، يشي بأنّ ما قبل العقوبات على باسيل ليس كما بعده في الحيّز المسيحي، وكلام جعجع تحديداً صدى أوّلي لذلك!