من بيروت، في الثاني من أيلول الماضي، دافع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، عن حقّ مجلة “شارلي إيبدو” الفرنسية الساخرة في إعادة نشر صور مسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، قائلا إنّ الناس في فرنسا لهم حق “التجديف” لتبدأ موجة جديدة من استحضار التطرّف واختلاطه بالأجندات السياسية والأمنية والتأثير المتبادل لما يجري في فرنسا وفي المنطقة على مسار القرارات والأحداث، بحيث بدأت التطوّرات تخرج عن السيطرة مع حادثة إقدام الطالب عبدالله أنزوروف على قطع رأس أستاذ التاريخ الفرنسي صمويل باتي، على خلفية عرضه الرسوم المسيئة للنبي.
إقرأ أيضاً: هذه هي الأخطار على ديننا
وأمس الخميس، لقي ثلاثة أشخاص مصارعهم، وأصيب آخرون في حادث طعن قرب كنيسة بمدينة نيس جنوبي فرنسا، بينهم امرأة جرى قطع رأسها، في تطوّر مرفوض ينذر بوقوع مزيد من الأعمال الإجرامية ضمن صراع مستجدّ لم يسبق أن شهدته فرنسا في إطار نضال الجاليات الإسلامية لتحقيق مكاسب وجودية لها، فذلك النضال مبنيٌّ أساساً على القواعد القانونية وتطويرها لصالح الاندماج الطبيعي، لا الإدماج القسري في المجتمع الفرنسي.
لم تعرف الجاليات الإسلامية أعمال القتل وقطع الرؤوس طيلة تاريخها الطويل في فرنسا، وما يجري دخيل عليها وخارج عن نطاقها، فأبناء هذه الجاليات يتظاهرون وربما ينخرطون في أعمال شغب في الشارع، لكنهم لم يسبق لهم أن مارسوا أعمال الإجرام مثل الذبح والطعن وربما التفجير. وهذا أمرٌ يجب أن تتوقف عنده السلطات الفرنسية التي يفترض أن تقدّم خطاباً يقرّ بالفصل بين الإسلام الذي يدين به مليار ونصف المليار إنسان، وبين ارتكابات أفراد يخالفون الدين الحنيف ويسيئون إليه بنسبهم أعمال الإجرام التي يرتكبونها إليه.
نلاحظ أنّ المنظمات “الجهادية” أصدرت مواقف تهاجم الجمعيات وأئمة المساجد الذين رفضوا الأعمال الإرهابية وأدانوها، ليصبح المعتدلون محاصرين بين متطرّفين من جهة “جهاديين” من جهة، وآخرين من الجهة اليمينية الفرنسية
يبدو أنّ موقف الرئيس الفرنسي قد فتح الباب أمام إيقاظ التطرّف من جهة المجموعات الملتحفة بأثواب “الجهاد” والمنتظرة لفرصة كهذه في تسعير النزاعات الدينية. فماكرون، في سعيه إلى استغلال تداعيات الغضب الإسلامي المتوقّع مع العودة إلى إثارة الرسوم المسيئة للنبي الكريم، حرّك في طريقه الكثير من أعشاش التطرّف الخامدة، التي تنتظر الفرصة لاستعادة حضورها مع نشوب خطاب الكراهية وصراع الحضارات والأديان وانتشاره في الأوساط الفرنسية والمسلمة بشكل متبادل.
إنّ اعتماد السلطات الفرنسية مبدأ العداء مع عموم الجاليات الإسلامية وجمعياتها القائمة بدون تقييم ونظر لتاريخها وسجلّها في الخدمة العامة، وموقفها من العنف ومستوى قبول الآخر، سيؤدي إلى مزيد من التوتّر ويخدم التطرّف المتنامي عند اليمين الفرنسي وعند المجموعات المتطرّفة دينياً، فالأولوية هي لإرساء تحالف بين المعتدلين لمواجهة المتطرّفين على ضفتي الصراع والمسارعة إلى تفكيك هذا اللغم المرعب الذي يهدِّدُ بانفجار يودي بالأمن والاستقرار، ويهدّد مصير المسلمين في فرنسا خصوصاً وأوروبا عموماً.
نلاحظ أنّ المنظمات “الجهادية” أصدرت مواقف تهاجم الجمعيات وأئمة المساجد الذين رفضوا الأعمال الإرهابية وأدانوها، ليصبح المعتدلون محاصرين بين متطرّفين من جهة “جهاديين” من جهة، وآخرين من الجهة اليمينية الفرنسية، بينما تواصل السلطات انحيازها نحو اليمين لعوامل كثيرة سياسية وانتخابية.
من الأهمية بمكان فهم خلفية الموقف الفرنسي المتمسك بالحريات وبأهميتها في منظومة القيم الفرنسية، بما في ذلك توجيه الانتقاد للأديان، وذلك يحصل تجاه الديانة المسيحية كما يجري بالنسبة للإسلام، لكن لا يمكن تجاهل أنّ هناك محظورات تـُمنع مقاربتها، مثل تجريم “معاداة السامية”. فعند هذا القانون يتوقف مفعول حرية التعبير، ويصبح المسار مختلفاً في المسارات والمآلات.
لن يرضى المسلمون بشتم نبيهم ولا يقبلون بالقتل باسمه، وهم يعلمون أنّ موجة الإرهاب هذه مصطنعة، وليست خياراً للأغلبية الساحقة من المسلمين في فرنسا والغرب عموماً، والمأمول عودة روح العقلانية لدى السلطات الفرنسية للكفّ عن تشجيع التعرّض لمقدسات المسلمين واعتماد الحوار وسيلة للتفاهم
أيضاً، هناك من يعتقد أنّ مسألة الحريات على عراقتها في فرنسا، إلاّ أنّها تتأثر أيضاً بالمصالح. ويستذكر كثيرون كيف تغاضت باريس عن ممارسات استبدادية لحلفاء لها، أو ذوي مصالح معها، في الشرق الأوسط وفي أفريقيا السمراء.
سياسياً، أذكى الصراع الفرنسي التركي مفاعيل قضية الرسوم المسيئة للنبي، فانحرفت لتأخذ بعداً سياسياً واضحاً، يستخدمه الرئيسان الفرنسي إيمانويل ماكرون والتركي رجب طيب أردوغان في شدّ العصب القومي وإذكاء روح الصراع، كلٌ من موقعه، ما جعل التصعيد حاجة للطرفين في سياق قيادة المرحلة الراهنة في تركيا وفرنسا، وربما في فرنسا أكثر من غيره لأسباب انتخابية.
ما يجري في فرنسا اليوم لعب بالنار بكلّ ما للكلمة من معنى وأبعاد، فرهان الرئيس ماكرون على اجتذاب شرائح من الجمهور اليميني، سيدفع قيادات هذا التيار إلى المزيد من التصعيد لتحقيق المزيد من المكتسبات في ظلّ تراجع السلوك الوسطي على الساحة الفرنسية، فهل يستلهم ماكرون أساليب النظام الإيراني في توظيف التطرّف “الجهادي” بعد التقارب الطويل بينه وبين طهران؟
لن يرضى المسلمون بشتم نبيهم ولا يقبلون بالقتل باسمه، وهم يعلمون أنّ موجة الإرهاب هذه مصطنعة، وليست خياراً للأغلبية الساحقة من المسلمين في فرنسا والغرب عموماً، والمأمول عودة روح العقلانية لدى السلطات الفرنسية للكفّ عن تشجيع التعرّض لمقدسات المسلمين واعتماد الحوار وسيلة للتفاهم، فالقهر والإكراه لا يؤسّسان إلاّ لمزيد من الكراهية والإرهاب في كلّ الاتجاهات.