فشلت كلّ محاولات الرئيس الشهيد رفيق الحريري في إقناع رئيس النظام السوري بشار الأسد بعدم تمديد ولاية الرئيس الأسبق إميل لحّود عام 2004. بين المغريات التي قدّمها الحريري، إبلاغه السوريين أنّه لا يمانع انتخاب سليمان فرنجية، كحلّ يحفظ مصالح دمشق ويعيد الاعتبار لشيء من آليّات عمل النظام السياسي اللبناني. أصرّت دمشق على التمديد لإميل لحّود، لا لتفوّق قناعتها به على اقتناعها بفرنجية، بل لأنّ الأهمّ من مضمون القرار الرئاسي في لبنان هو هويّة من يتّخذ القرار.
سطوة الوصاية الأسديّة، لا تُبرهَن فقط من خلال خضوع لبنان لخيارات صديقة لسوريا، بل من خلال التحكّم المطلق في العملية والمعايير التي يتمّ من خلالها اتّخاذ هذه الخيارات. لا يكفي ولاء من تمّ اختياره، كسليمان فرنجية. الأهمّ هو تثبيت من لديه سلطة اتّخاذ القرار المطلقة، وإملاء شروط مثل هذا القرار، حتى لو اضطرّت دمشق إلى أن ترفض مرشّحاً لا غبار على تبعيّته، لمجرّد أنّ التوصية به لم تصدر عنها بل عن آخرين، وبهدف تعديل قرارها.
السيناريو يتكرّر
سيتكرّر السيناريو نفسه عام 2015، حين قرّر الرئيس سعد الحريري ترشيح سليمان فرنجية للرئاسة، في محاولة منه لإنهاء الشغور الرئاسي بعد انتهاء ولاية الرئيس الأسبق ميشال سليمان، وكسر الاستعصاء بين ترشيح ميليشيا الحزب للعماد ميشال عون وترشيح 14 آذار للدكتور سمير جعجع. على طاولة الحريري في الرياض، كان أحد المستشارين يشرح كيف أنّ الخطوة، التي لم تكن قد أُعلنت رسمياً بعد، لكنّها كانت قيد التداول الحارّ في بيروت، ستربك الجميع وتخلط الأوراق. فبحسبه لن يكون بمقدور الحزب رفض ترشيح فرنجية، الذي يثق به ثقةً مطلقة، كما لن يستطيع فعل ذلك من دون التصادم مع بشار الأسد، الذي كان يعيش أسوأ أيامه منذ بداية الثورة عام 2011، وسيتنفّس الصعداء، إن نجح في إيصال رجله في لبنان إلى سدّة الرئاسة. بدا الكلام منطقياً، وفق حسابات العقل والحسّ السليم. لكن مرة أخرى ستتفوّق في عقل الحزب هذه المرّة، لا بشار الأسد، أولوية من يتّخذ القرار على أولوية مضمون القرار نفسه. يومها قال نائب الأمين العامّ للحزب نعيم قاسم: لقد تراجعوا الآن إلى حدود القبول بفرنجية. لنعطهم المزيد من الوقت وسيصلون في تراجعهم إلى تبنّي ميشال عون. وهذا ما حصل.
القصّة ليست جهاد أزعور. القصّة أنّ حسن نصرالله لم يختَر هذا المرشّح، ولو اختاره فسنسمع مديحاً لكفاءته وشطارته ومناقبيّته
ما هي عقيدة السيطرة؟
نحن من يقرّر هويّة رئيس لبنان. هذه كانت رسالة بشّار للحريري الأب، ومن خلاله لجميع اللبنانيين، ومثلها كانت رسالة حسن نصرالله للحريري الابن ومن خلاله لجميع اللبنانيين.
أمّا حين وافق الحزب على ترشيح ميشال سليمان لرئاسة الجمهورية خلفاً لإميل لحّود، فإنّه فعل ذلك في سياق معركة مختلفة تماماً. كان مضى نحو ثلاث سنوات على خروج سوريا من لبنان، وسنتان على تفاهم مار مخايل بين نصرالله وعون، وكانت الساحة الداخلية تمور بتداعيات اغتيال الحريري عام 2005 وبعدها حرب تموز 2006. كان الانقسام السياسي في ذروته والتجاذب حول “دي إن إيه” النظام السياسي في لبنان في ضوء فشل الثنائي الشيعي في فرط حكومة الرئيس فؤاد السنيورة حتى مع استقالة الوزراء الشيعة منها، هو الهاجس والمعيار. قضم الحزب، لقمة كبيرة من لحم اتفاق الطائف، بعد غزوة 7 أيار 2008 وإيصال الجميع إلى “اتفاق الدوحة”، الذي أدخل تعديلات عميقة على آليّات تكوُّن السلطة في لبنان. كان ما أُنجز كافياً كثمن للقبول بميشال سليمان، وكان الحزب يحتاج إلى المزيد من الوقت بغية إجراء فحوص إضافية لولاء وطاعة الحليف العونيّ الجديد.
يندرج هذا في سياق “عقيدة السيطرة” التي يُدمن الحزب ممارستها، على اجتماع نقيض له في الفكر والعادات والقيم. وتصبح ممارسة السيطرة المطلقة إذّاك مرادفاً لفرض التأييد على الآخرين، لا في ما يتّفقون نسبياً مع ميليشيا الحزب فيه، بل تحديداً، في ما يختلفون معه، فيه وعليه. لا يبخل التاريخ بتقديم نماذج عن آليّات السيطرة هذه، من ثورة ماو الثقافية في الصين، حيث كان يجبر الأفراد على التنصّل من قناعاتهم الخاصّة لاحتضان أيديولوجية القوّة المهيمنة علناً، إلى تجربة المواطنين في ظلّ ألمانيا النازية، الذين أُجبروا على رفض وعزل أفراد الجالية اليهودية جهاراً، وهو ما كان غالباً خياراً يتعارض مع معتقداتهم الشخصية.
من الصعب تصديق ما نُسب لجهاد أزعور من نوايا تآمريّة، ومقدّمات تشي بالتحدّي والمواجهة. الأصعب تصديق أنّه يملك ما يكفي من حضانة شعبية
أمّا المثال المعاصر الأقرب لميليشيا الحزب فهو المرشد الأعلى الإيراني وأداته المثلى، مجلس صيانة الدستور، المعيَّن بشكل مباشر وغير مباشر من قبله. يتفوّق الدور العمليّ لمجلس الصيانة على كلّ المؤسّسات الدستورية في إيران، لا سيما البرلمان، خصوصاً لجهة سلطة فحص المرشّحين لجميع الانتخابات، بما في ذلك الرئاسة، وتنقية المشهد الانتخابي من أيّ عناصر لا يراها المرشد ملائمة لتقويم اللحظة السياسية التي تُجرى فيها الانتخابات.
لا تشذّ ميليشيا الحزب عن هذا الإرث الديكتاتوري، التاريخي والمعاصر، والذي من خلاله تسعى إلى تأكيد سلطتها المطلقة داخل لبنان، وتبديد ما بقي من عناصر الديمقراطية اللبنانية المريضة.
إقرأ أيضاً: كيف يفكّر جهاد أزعور؟
من الصعب تصديق ما نُسب لجهاد أزعور من نوايا تآمريّة، ومقدّمات تشي بالتحدّي والمواجهة. الأصعب تصديق أنّه يملك ما يكفي من حضانة شعبية، واستعداد شخصي، وأدوات عمليّة تعينه على تنفيذ الانقلاب المنسوب إليه.
القصّة ليست جهاد أزعور. القصّة أنّ حسن نصرالله لم يختَر هذا المرشّح، ولو اختاره فسنسمع مديحاً لكفاءته وشطارته ومناقبيّته ما يجعلك تتصوّر أنّ الرجل بات في عداد المجلس الجهاديّ وأوّل العابرين على طريق القدس.
لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@