لم يعد أمام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سوى القيام بدور جمع التبرّعات لمخيم للاجئين الذي يضم أربعة ملايين مواطن لبناني، وقرابة مليون ونصف المليون نازح سوري، ومئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين وخلافهم، يتجمّعون اليوم في الجمهورية اللبنانية التي جرى الاحتفال بمرور مئة عام على ولادة كيانها في أول أيلول الماضي برعاية الرئيس ماكرون وحضوره، باعتباره من أحفاد الجنرال غورو الذي قام بإعلان لبنان الكبير بنفسه عام 1920.
أما المبادرة التي أطلقها الرئيس الفرنسي في زيارته الأولى بعد انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب الماضي، وثبّتها في زيارته الثانية في الأول من أيلول المنصرم، فقد طرأ عليها تحوّل جذري: فبعدما كانت مبادرة لإعادة النهوض الشامل في لبنان، صارت جمعية للرفق بكل الذين عاقبتهم وزارة الخزانة الأميركية أو الذين تستعدّ لمعاقبتهم قريباً على غرار حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة.
في معلومات لـ”أساس” من مصادر ديبلوماسية في موسكو، أنّ آخر محاولات باريس لمنح مبادرة الرئيس الفرنسي في لبنان “قبلة الحياة” كي لا تلفظ أنفاسها، كانت قبل أيام من خلال الزيارة التي قام بها الموفد الرئاسي الفرنسي باتريك دوريل للعاصمة الروسية حاملاً رسالة من الأليزيه إلى الكرملين تطلب مساعدة القيادة الروسية لدعم المبادرة الفرنسية عشية المؤتمر الدولي الثاني الذي يترأسه الرئيس ماكرون اليوم بواسطة “الفيديو كونفرنس”، وهو المؤتمر الدولي الثاني لمساعدة بيروت والشعب اللبناني، وبمشاركة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس ورعايته. وتضمّنت الرسالة الفرنسية تحديداً طلباً إلى الرئاسة الروسية كي تبذل جهداً لدى كلّ من المملكة العربية السعودية، والجمهورية الإسلامية الإيرانية، نظراً للعلاقات الجيدة التي تتمتع بها موسكو مع هذيّن البلدين، كي يوظّفا تأثيرهما في لبنان من أجل تسهيل قيام حكومة جديدة يعكف على تأليفها الرئيس سعد الحريري. ولاقت الخارجية الروسية فوراً الطلب الفرنسي بإصدار بيان يحثّ على الإسراع بتشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة. لكن الطلب الفرنسي من المسؤولين الروس القيام بمسعى في الرياض وطهران، ذهب أدراج الرياح وفق النتائج التي ظهرت لاحقاً في بيروت، ودلّت على أنّ جهود تأليف الحكومة “راوح مكانك”!
آخر محاولات باريس لمنح مبادرة الرئيس الفرنسي في لبنان “قبلة الحياة” كي لا تلفظ أنفاسها، كانت قبل أيام من خلال الزيارة التي قام بها الموفد الرئاسي الفرنسي باتريك دوريل للعاصمة الروسية حاملاً رسالة من الأليزيه إلى الكرملين تطلب مساعدة القيادة الروسية لدعم المبادرة الفرنسية عشية المؤتمر الدولي الثاني
هل هناك عطب ما في آليات مبادرة الرئيس ماكرون حالت دون وصولها إلى النتائج المرجوّة، ألا وهي قيام حكومة لبنانية جديدة تأخذ على عاتقها مهمة تلقّي المساعدات الدولية بعد عقد اتفاق مع صندوق النقد الدولي ما يمثّل كلمة السرّ الأميركية التي تماثل عبارة “إفتح يا سمسم”؟
في رأي أوساط ديبلوماسية مواكبة للمبادرة الفرنسية أنّ دوائر القرار في باريس لا تزال تعتمد النهج ذاته منذ الأسبوع الأوّل من آب الماضي، على الرغم من الخيبات التي مُنيت بها المبادرة حتّى الآن. وقوام هذا النهج تجاوز العقوبات التي فرضتها واشنطن على شخصيات لبنانية بموجب قوانين مكافحة الفساد والإرهاب السارية المفعول في الولايات المتحدة، وأبرزها قانوني ماغنيتسكي وقيصر. وفي قلب هذه العقوبات التي صدرت، أو التي ستظهر، هو “حزب الله”، الذي يمثّل الهدف الرئيسي، سواء باستهدافه مباشرة، أو بصورة غير مباشرة من خلال معاقبة كل من صلة بهذا الحزب.
وأشارت هذه الأوساط إلى أنّ باريس، وبعد صدور عقوبات وزارة الخزانة الأميركية بحقّ رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل، عمدت إلى احتواء تأثير هذه العقوبات على عملية تأليف الحكومة بأن أوعزت عبر قنواتها في بيروت إلى الرئيس الحريري كي يفتح حواراً مع النائب باسيل، كي يتم معالجة الانسداد الحالي أمام إعداد مسودّة تشكيل الحكومة المنشودة. وعلى رغم الكتمان الشديد الذي يعتمده الرئيس المكلف، فإنّ المؤشرات الأخيرة تدلّ على أنّ هذا الحوار بين بيت الوسط وبين ميرنا الشالوحي لم يحصل.
في سياق متصل، لا تزال أوساط الرئيس الحريري تشدّد على تمسّكه بالمبادرة الفرنسية لجهة قيام حكومة مهمة بعيدة عن التأثير الحزبي. وإذا دقّقنا بهذا السلوك، يتبيّن بحسب المعلومات أنّ الحريري نفسه يحاذر شخصياً الوصول إلى وضع يجعله في مرمى العقوبات الأميركية سواء مباشرة أو من خلال استهداف شخصيات محسوبة عليه. وعلى ما يبدو، فإن “حزب الله” الذي يمثّل جوهر أزمة تأليف الحكومة بالمواصفات التي يطلبها المجتمع الدولي بدفع أميركي وخليجي، قد تنبّه إلى حذر الرئيس المكلّف، فعمد قبل أيام إلى ممارسة الضغط المضاد، عبّر عنه نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم، فصرّح عبر قناة “المنار” التلفزيونية التابعة للحزب قائلاً: “فلتتشكّل الحكومة، ويفرضوا عقوبات على أعضاء الحكومة، ورئيس الحكومة، ساعتها ندرك أنّه يجب أن نقلّع شوكنا بأيدينا. وبالتالي سيعود الأميركيون ليجدوا طريقة يتفاهمون من خلالها مع لبنان والتعامل معه. لماذا نحن خائفون من العقوبات؟”.
دوائر القرار في باريس لا تزال تعتمد النهج ذاته منذ الأسبوع الأوّل من آب الماضي، على الرغم من الخيبات التي مُنيت بها المبادرة حتّى الآن. وقوام هذا النهج تجاوز العقوبات التي فرضتها واشنطن على شخصيات لبنانية بموجب قوانين مكافحة الفساد والإرهاب السارية المفعول في الولايات المتحدة
التطوّر المفاجئ في مسار العقوبات الأميركية برز بالأمس من خلال المقال الذي نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” وجاء فيه :”هناك تركيز كبير على المصرف المركزي، وعلى الحاجة للتدقيق في حساباته لنفهم ماذا حصل بالفعل هناك”. ولفت إلى أنّ “مهمّة التدقيق الجنائي من المنظور الأميركي تهدف بشكل أساس إلى محاولة كشف النقاب عن كافة المعلومات ذات الصلة باستفادة حزب الله من النظام المصرفي اللبناني لتمويل أنشطته، وفي ذلك تذهب واشنطن باتجاه تأكيد تلازم المسارات بين مكافحة الإرهاب ومكافحة الفساد”.
حتّى وقت قريب، كان المصرف المركزي وحاكمه رياض سلامة خارج أيّ استهداف أميركي، بل كان عكس ذلك مشمولاً بحماية أميركية في وجه الحملة التي شنّها عليه فريق يلوذ بـ”حزب الله”؟ فماذا حصل حتى صار المصرف وحاكمه في دائرة التصويب الأميركية؟
إقرأ أيضاً: الحريري – باسيل: مكالمة فمجاملة ففاتحة على روح الحكومة!
في انتظار جلاء غموض هذا التطوّر المثير، كانت لافتة الزيارة الأخيرة التي قام بها حاكم المركزي إلى باريس حيث اجتمع مع حاكم المصرف المركزي الفرنسي، وحاكم المصرف المركزي الأوروبي، وخلية الأزمة الفرنسية المتابعة لوضع لبنان… لكي يطلعهم سلامة على “الخطر الكبير من انهيار الاقتصاد اللبناني” وفق معلومات وزّعتها مصادر قريبة من سلامة، وقالت إنّ محادثات الحاكم في فرنسا “لاقت تفهّماً كبيراً من المسؤولين الفرنسيين الذين أطلعوا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على الوضع بكامله”.
في حين قالت مصادر أخرى أنّ سلامة خلال زيارته إلى باريس لم يجتمع مع أيٍّ من المسؤولين الفرنسيين.
اليوم حاكم المصرف المركزي، وبالأمس جبران باسيل، وقبلهما “حزب الله”، أصبحوا في دائرة العقوبات الأميركية، وصاروا الآن في عهدة باريس.
بعد ذلك، هل هو قول مبالغ فيه أنّ المبادرة الفرنسية انتهت إلى “جمعية للرفق بالمعاقبين أميركياً”؟