المئوية: المفتي نجا.. اللبناني الذي قال لا لـ”غورو”

مدة القراءة 5 د


يرتبك الإنسان عندما ينظر إلى صورة مفتي بيروت الأكبر الشيخ مصطفى نجا، وهو يجلس إلى جانب الجنرال الفرنسي هنري غورو في قصر الصنوبر ببيروت في الأول من أيلول عام 1920 لحظة إعلان دولة لبنان الكبير، ثم ينظر بعدها إلى حادثتين موثّقتين للمفتي نجا مع الجنرال غورو.

إقرأ أيضاً: إرباك المئة: عقبال المئتين؟!

الأولى جاءت بعد الصورة مباشرة. إذ زار الجنرال غورو الشيخ مصطفى نجا في دارته، وعرض عليه منصب ولقب مفتي دولة لبنان الكبير، بدلاً من لقبه مفتي بيروت الأكبر. واعتقد غورو أنّ هذا اللقب سيفتح شهيّة المفتي نجا على التعاون مع السلطات الفرنسيّة، ويدفعه ومن ورائه عموم المسلمين للسير في ركاب الانتداب. إلا أنّ أحلام غورو تلاشت عندما رفض الشيخ نجا القبول بما عرض عليه، وتمسّك بلقب مفتي بيروت الذي حصل عليه في عام 1909 من قبل السلطان العثماني محمد رشاد قائلاً :”إنّني عيّنت مفتياً لبيروت المحروسة بفرمان من خليفة المسلمين، ولن أستغني عن هذا الفرمان أو أستبدله بقرار فرنسي مهما كانت قيمة هذا القرار. إنكم تستطيعون أن تصدروا قراراً باستحداث منصب مفتي الجمهورية اللبنانية، ولكن ليس قبل وفاتي”.

لقد كان المفتي نجا حريصاً على التفاصيل في كلّ المهام التي تولاها والمناصب التي اعتلاها

أما القصة الثانية، فقد زار غورو الشيخ نجا بعد أسابيع في غرفة الاستقبال الملحقة بالمسجد العمري الكبير في وسط بيروت، وقدّم له خمسين ألف ليرة ذهبية طالباً منه توزيعها حسب رغبته على فقراء المسلمين، فرفض الشيخ نجا الهدية وقال: “ليس في جماعتنا فقراء”، فاعترض غورو وقال” :بل في كلّ جماعة فقراء”. وعندها وقف نجا معلناً انتهاء اللقاء قائلاً :”إذا رأيت منهم، فأعطهم ما ترغب من هذا المال بنفسك”.

إلا أنّ الارتباك والحيرة ما بين الصورة والحادثتين سيتلاشيان بسرعة متى عرف المرتبك الحائر قلق المفتي نجا.

لقد كان إعلان دولة لبنان الكبير في الأول من أيلول عام 1920 أمراً حساساً ومربكاً للمفتي نجا الذي وجد نفسه وطائفته بين مطرقة الدولة العثمانية التي ينظر إليها على أنها دولة الخلافة الإسلامية وسندان سلطة الأمر الواقع التي اسمها فرنسا بعد هزيمة الدولة العثمانية وانكفائها عن لبنان. وما بين المطرقة والسندان، كان الشيخ نجا قلقاً على الأوقاف الإسلامية، وكيفية الحفاظ عليها مع وجود دولة محتلة اسمها فرنسا، فلجأ إلى العقل، ولم يقبل بإعلان دولة لبنان الكبير إلا بعد أن حصل على الضمانات الكاملة للحفاظ على الأوقاف وسلطات المحاكم الشرعية السنية وكلّ امتيازاتها.

أكثر شعره في الغرض الديني من مديح وتوسل وابتهال، كما نظم في الرثاء، وأفاد من تجليات الصوفية، ومدح أقطابها، وقد نوع في قوافي بعض مطوّلاته

لقد كان المفتي نجا حريصاً على التفاصيل في كلّ المهام التي تولاها والمناصب التي اعتلاها من رئاسته لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت، إلى رئاسة دار الأيتام الإسلامية، ورسائله إلى المندوب السامي الفرنسي حول التعليم الديني وتسمية الشوارع والطرقات في بيروت، وأيتام المسلمين، ووقف العلماء، ومدارس الإناث المسلمات، ورأيه في وضع الدستور اللبناني، والمطالبة بالوحدة السورية والعربية، ورفض نقل الموظفين البيارتة خارج بيروت، ورفضه إطلاق العيارات النارية في ذكرى المولد النبوي الشريف، حتى يُقال إنّ المسلمين في لبنان عامة وفي بيروت بشكل خاص ما زالوا يقتاتون حتى يومنا في صحن المفتي نجا.

سيرة ذاتية

ولد المفتي نجا في بيروت 13 حزيران 1853 وتوفي في 31 كانون الثاني 1932 والده يدعى محي الدين نجا قضى حياته في لبنان.

تلقى تعليمه عن بعض علماء عصره؛ فحفظ القرآن الكريم، ودرس العلوم الدينية والشرعية والفقهية والأدبية، ونال إجازاته فيها، نشط في الدعوة إلى الطريقة الصوفية الشاذلية.
اشتغل بالتجارة أثناء دراسته، ثم عين رئيساً للجنة مدرسة ثمرة الإحسان للبنات، كما كان صاحب حلقة علم في الجامع العمري، ثم أصبح مفتيًا للعاصمة.
كان عضواً في لجنة الأوقاف الإسلامية، كما كان رئيساً لجمعية المقاصد الخيرية.

الإنتاج الشعري:

 – له مطولة بعنوان: «مورد الصفا في مولد المصطفى» – دار الرشاد الإسلامية – بيروت 1951، وله قصائد ضمنت كتابه: «كشف الأسرار لتنوير الأفكار» – مطبعة الإنصاف – بيروت، وله قصائد وردت في بعض مصادر دراسته، وله ديوان مخطوط ضمّ توسّلاته وأدعيته وأناشيده الروحية والأدبية، وله أرجوزة في التربية والتعليم.


الأعمال الأخرى:

– له نثر على طريقة البرزنجي بعنوان «فرائد المواهب اللدنية في مولد خير البرية»، وله رسالتان في التربية مطبوعتان، هما: «نصيحة الإخوان بلسان الإيمان» – بيروت 1913، و«رسالة بمشروعية الحجاب» – المطبعة الوطنية – بيروت، وله عدة مؤلفات مطبوعة ومخطوطة، منها: «كشف الأسرار لتنوير الأفكار» طبعته جريدة بيروت 1891، و«إرشاد المريد لأحكام التجويد»، و«قصة المعراج وفق ما ورد في الآثار الصحيحة»، و«مظهر السعود في مولد سيد الوجود»، وله شرح على مقاصد النووي بعنوان «فرائد الفوائد على المقاصد»، وله فتاوى وتفاسير، منها: تفسير جزء عمّ.

أكثر شعره في الغرض الديني من مديح وتوسل وابتهال، كما نظم في الرثاء، وأفاد من تجليات الصوفية، ومدح أقطابها، وقد نوع في قوافي بعض مطوّلاته. نظم الموشح والمخمس والمشطر. لغته قوية، ومعانيه متكررة، وتراكيبه حسنة، وبلاغته مألوفة.
نال وسام الاستحقاق الذهبي الأول في الجمهورية اللبنانية، كما منح عدّة أوسمة أولها المجيدي في الرتبة الثانية، ثم ميدالية الحرب، ثم ميدالية اللياقة الذهبية، ثم الوسام العثماني الثاني.

مواضيع ذات صلة

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…

ياسر عرفات… عبقرية الحضور في الحياة والموت

كأنه لا يزال حيّاً، هو هكذا في حواراتنا التي لا تنقطع حول كل ما يجري في حياتنا، ولا حوار من ملايين الحوارات التي تجري على…

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…