الكويت 2023: الأمواج العاتية

مدة القراءة 8 د


لا نقاش في أنّ الحدث الأبرز في الكويت لعام 2023 تمثّل بوفاة الأمير الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح وانتقال الإمارة إلى وليّ عهده الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح، وسط أحداث واستحقاقات كبرى، على رأسها تعيين وليّ عهد جديد واختيار حكومة جديدة واختبار إمكانية تفاهمها مع البرلمان.
في حزيران 2022، حذّر الشيخ مشعل، عندما كان وليّاً للعهد، من أنّه في حال عودة التأزيم السياسي، بعد الانتخابات النيابية المبكرة، “ستكون لنا… إجراءات أخرى ثقيلة الوقع والحدث”.
في كانون الأول 2023، قلَب الشيخ مشعل، عندما أصبح أميراً، المشهد رأساً على عقب، موجّهاً انتقادات غير مألوفة للحكومة ومجلس الأمّة، فرحلت الأولى سريعاً ويبدو أن الثاني سيلحق بها قريباً.
واقع الأمر أنّ التأزيم بين السلطتين لم يكن عنوان الانتقاد، فهما كانا يعيشان “أكثر من شهر عسل”، لكنّه بُني على “تنفيعات” و”صفقات” و”مقايضات” بينهما “أضرّت بمصالح البلاد والعباد”، على حدّ وصف الأمير.

انتخابات.. إبطال… انتخابات
لا يمكن إلقاء الضوء على أحداث 2023 في الكويت من دون العودة إلى منتصف 2022، عندما تمّ حلّ مجلس الأمّة وإجراء انتخابات نيابية في شهر أيلول، أفرزت مشهداً جديداً، بدا من خلاله أنّ التعاون مُمكن بين الحكومة والبرلمان.
مع انتهاء 2022 كان المشهد كالتالي: برلمان تُسيطر عليه المعارضة مع بعض الأصوات المُضادّة، وحكومة متوائمة مع المعارضة، وأملٌ بمشهد توافقي يُرسي بعضاً من الاستقرار بعيداً عن الأزمات في 2023.
لم تكن بداية العام مثاليّة أو مُبشّرة، حيث اصطدمت السلطتان في جلسة 10 كانون الثاني بسبب خلاف على مشروع قانون لشراء الحكومة قروض المواطنين المقدّرة بحوالي 14.7 مليار دينار كويتي (حوالي 48 مليار دولار أميركي).
حدَثَ خرق إيجابي في 18 كانون الثاني مع صدور عفو أميري عن 34 مواطناً، بعضهم مُهجّر في الخارج، والقليل منهم كان ينفّذ أحكاماً بالسجن في الداخل.

في كانون الأول 2023، قلَب الشيخ مشعل، عندما أصبح أميراً، المشهد رأساً على عقب، موجّهاً انتقادات غير مألوفة للحكومة ومجلس الأمّة

شمل العفو بشكل أساسيّ ما يُعرَف بـ”مجموعة الفنطاس” التي اشتُهرت في عام 2015 بعدما وصلت منها إلى هواتف أغلب الكويتيين، عبر تطبيق “الواتساب” من رقم مجهول يبدأ بمفتاح دولة غير الكويت، رسالةٌ تتحدّث عن “مؤامرة تُحاك على الدولة لقلب نظام الحكم والقضاء”.
جاء العفو ليُسقط الأحكام القضائية بالسجن التي صدرت بحقّ المتّهمين في هذه المجموعة بـ”إذاعة أخبار كاذبة ومُغرضة حول الأوضاع الداخلية في البلاد”، وأبرزهم حمد الهارون وثلاثة من الأسرة الحاكمة هم الشيخ عذبي الفهد (شقيق الشيخ أحمد الفهد)، وأحمد داود الصباح، وخليفة علي الصباح.
بعد أيام من صدور العفو، قدّمت الحكومة استقالتها وتأزّم الوضع السياسي، واستمرّ المشهد مُجمّداً حتى 5 آذار، حين أُعيد تكليف الشيخ أحمد النواف مجدّداً ليشكّل حكومته الرابعة.
بعد ذلك بأسبوعين، جاءت المفاجأة من المحكمة الدستورية التي قرّرت إبطال مجلس الأمّة المُنتخب في أيلول 2022، وإعادة مجلس 2020 المُنحلّ لإكمال مدّته الدستورية المُقدّرة بحوالي عامين.
اختلطت الأوراق وتشابكت العوامل القانونية – الدستورية بالسياسية واستفحلت الأزمة، وهو ما اضطرّ الأمير إلى اللجوء إلى خيار العودة إلى الشعب مجدّداً عبر حلّ البرلمان، المُعاد بقوّة حكم الدستورية، في منتصف نيسان، والدعوة إلى انتخابات جديدة.
على هذا الأساس، جرت انتخابات 6/6 (6 حزيران) التي أظهرت تغيُّراً كبيراً في مزاج الناخب الكويتي، لكن من دون مفاجآت كبيرة في النتائج، مقارنة بانتخابات أيلول 2022.

“استئساد” النوّاب
في 18 حزيران، تمّ تشكيل حكومة جديدة برئاسة النواف أيضاً، كانت الرابعة بقيادته خلال أقلّ من سنة، لكنّها الأولى “الحقيقية”، وفق رأي كثيرين، حيث وضع حينذاك كلّ أوراقه على الطاولة، مع توزير “حليفه” الشيخ أحمد الفهد بمنصب “نائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع”، في خطوة تركت تأثيرات كبرى على المشهد السياسي، وأفرزت ما سيؤدّي لاحقاً إلى انقلاب المشهد.
مع عودته إلى المناصب الحكومية بعد 12 سنة من مغادرتها، شكّل الفهد “درعاً” للحكومة ونجح من خلال مجموعة النواب الموالين له الذين يتمتّعون بحيثيّة سياسية وحضور شعبي، في درء مخاطر الاستجوابات وحماية الوزراء.
اعتباراً من شهر تموز، بدأ “التعاون” بين السلطتين يؤتي أكله، مع غلبة واضحة لمجلس الأمّة الذي “استأسد” على الحكومة، في مقابل توفيرالحماية لها وعدم إطاحة وزرائها في الاستجوابات، واتفق معها على “خارطة طريق” تتضمّن تشريعات وقوانين تراها غالبية النواب مُستحقّة.
المشكلة هنا أنّ الحكومة كانت الطرف الأضعف، وكانت ترضخ لطلبات النواب: جماعياً عبر “السير” بالتشريعات التي يريدونها، وفردياً عبر “زرع ربعهم” (أي المقرّبين منهم) في الوزارات والإدارات والهيئات الحكومية.

في 2024، تتطلّع الكويت إلى حلّ الأزمتين مع العراق وإيران، من دون آمال كبيرة بالتوصّل لنتائج حاسمة

من النقد إلى “العلاج بالصدمة”
أوّل إشارة “غضب” جاءت في 31 تشرين الأول، حين وجّه وليّ العهد الشيخ مشعل الأحمد (قبل أقلّ من شهرين من تولّيه الإمارة) انتقادات للحكومة التي رأى أنّ أداءها “لم يُحقّق ولم يُلامس طموحات وتطلّعات المواطنين، على الرغم من دعم القيادة السياسية لها”، وأنّ عملها اتّسم بـ”التردّد في اتّخاذ القرارات، والبطء في التنفيذ، وعدم تنفيذ برامج عملها”.
كما وجّه انتقادات قاسية للسلطة التشريعية، محذّراً بعض النواب من “الاتّجار باسم المواطنين لتحقيق مكاسب شخصية وهامشية”.
لم تلتقط السلطتان الإشارة، وتابعتا السير وفق الخطّ المرسوم سابقاً، ليتّضح لاحقاً أنّ امتناع وليّ العهد عن اتّخاذ أيّ إجراء مردّه إلى تعليمات شقيقه الأمير الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح، الذي كان ابنه الشيخ أحمد النواف على رأس الحكومة.
مع وفاة الشيخ نواف وتولّي الشيخ مشعل مسند الإمارة، خرج إلى العلن ما كان يُهمس به سرّاً، مع تأكيد الأمير، في أوّل خطاباته كحاكم، أنّ الحكومة ومجلس الأمّة ألحقا “أضراراً بمصالح البلاد والعباد”، عبر إبرام “صفقة تبادل مصالح ومنافع على حساب مصالح الوطن والمواطنين”.
رأى البعض أنّ ما قام به الأمير يشبه “العلاج بالصدمة”، وقد يلجأ إلى خيارات كبيرة من شأنها خلط الأوراق، على رأسها حلّ مجلس الأمّة وإجراء انتخابات مبكرة.

3 مستويات من التحدّيات في 2024
هكذا استقالت الحكومة بعد قليل من الخطاب، وسط توقّعات بأن يكون عام 2024 مليئاً بالمفاجآت والمتغيّرات، على 3 مستويات بشكل أساسي:
– الأول: اسم وليّ العهد، إذ ينصّ الدستور على أن يختار الأمير وليّ العهد خلال سنة من تولّيه الحكم، لكن جرت العادة أن يكون الاختيار خلال فترة قليلة، فيما تعطي المؤشّرات الأوّلية ترجيحاً لاسم الشيخ ناصر المحمد الأحمد الصباح، الذي شكّل 7 حكومات بين 2006 و2011.
– الثاني: سياسة الحكومة الجديدة، في ظلّ توقّعات بأن تكون مختلفة جذرياً عن الحكومة المستقيلة في أسماء وزرائها ومنهجية عملها.
– الثالث: مصير مجلس الأمّة الذي يرى كثيرون أنّ تركيبته ستتغيّر في أيّ انتخابات مبكرة، لكن لا ضمانات بأن يكون “مِطواعاً” بيد الحكومة، أو خالياً من “الصقور” المعروفين بالصوت المرتفع والسياسات المتشدّدة.

إقرأ أيضاً: الكويت: العلاج بالصدمات “الأميريّة”

الدُرّة وخورعبدالله
على مستوى التحدّيات الخارجية، برز ملفّان أساسيان مع الجارَين الكبيرَين في 2023:
– الأوّل: يرتبط بحقل الدُرّة الغنيّ بالغاز، الواقع بين الكويت والسعودية، الذي تصاعدت ادّعاءات إيران بأنّ جزءاً منه يقع داخل حدودها البحريّة، في موقف قوبل بموقف كويتي حازم، مفاده أنّ الحقل ملكية مشتركة حصراً مع السعودية، وأنّ البلدين الخليجيَّين طرف تفاوضيّ واحد، وأن لا حديث عن أيّ حقل أو تعاون قبل ترسيم الحدود البحرية.
– الثاني: توتّر العلاقات مع بغداد بسبب القرار الذي أصدرته المحكمة الاتحادية العليا في العراق مطلع شهر أيلول ونصّ على عدم دستورية اتفاقية خور عبدالله الخاصة بتنظيم الملاحة البحرية في الممرّ المشترك بين البلدين.
لم يكن مصدر الغضب الكويتي فقط إسقاط اتفاقية موقّعة ومنفّذة من أكثر من 10 سنوات، وإنّما أيضاً ما تضمّنه الحكم من مغالطات تاريخية وسرديات عن تاريخ الكويت منذ عام 1546، وهو ما استدعى تدخّلاً خليجياً ودولياً مسانداً لموقف الكويت، بعد حملة واسعة قادها وزير خارجيّتها.
في 2024، تتطلّع الكويت إلى حلّ الأزمتين مع العراق وإيران، من دون آمال كبيرة بالتوصّل لنتائج حاسمة، وتسعى إلى الحفاظ على دورها كـ”نقطة وصل” و”جسر” بين الدول، عبر إعادة تفعيل دبلوماسية الحوار والوساطة التي كانت أيّامها الذهبية في عهد الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد (2006 -2020).

مواضيع ذات صلة

فلسطين 2024: المتاهة الجديدة للفلسطينيين..

خانة السنوات الشداد في روزنامة الفلسطينيين طافحة تتدفّق خارج حدود الموازين، ونصيبهم في أعوام الخير شحيح نادر، تحجبه عقود طويلة من احتلال بغيض نغّص حياتهم…

2023: موسم الهجرة الفرنسية من إفريقيا

يشبه المأزق الفرنسي في إفريقيا اليوم، المشكلة التي واجهتها المملكة المتحدة من قبل في دول الكومنولث، مع شيوع السردية المشكّكة في مستقبلها. فهل تشكّك فرنسا…

أوكرانيا بين الحظّ العاثر واللعنات الثلاث

لم تسِر سفن الحرب الأوكرانية في العام المنصرم كما يشتهي فولوديمير زيلينسكي. الهجوم المضادّ الذي شنّته كييف ضدّ القوات الروسية في الدونباس لم يحقّق أيّاً…

عام الحديد والنار

أطلقنا في “أساس” على العام 2023 اسم “الحديد والنار”. هو عام يختصر كل تاريخنا في هذه المنطقة وحكاية كل الاجيال التي ما عرفت عاماً من…