بشفافيّة تامّة وبلا قفّازاتٍ أو تكرارٍ لعبارات معسولة وجُمَلٍ فضفاضة، خرَجَت الحكومة الكويتية الجديدة “عن النصّ” وقالت الأمور كما هي، في برنامج عملها الذي قدّمته إلى البرلمان مطلع هذا الأسبوع، وعنوانه “وطن عادل وآمن ومستدام”.
بدا العنوان متلاصقاً تماماً مع حجم الخوف من الآتي في حال “الاستمرار في المسار الحالي”… فكلمة “مستدام” التي وردت فيه عكست حقيقة قاسية، مفادها أنّ مواصلة استهلاك الثروة الناضبة من دون تحويلها إلى ثروة متجدّدة “وصولاً إلى اقتصاد حيوي ديناميكي يحاكي المستقبل”، ستؤدّي في المستقبل القريب (بحلول 2033 نظريّاً) إلى “تدهور رفاهية السكان والرعاية الاجتماعية على الرغم من زيادة الإنفاق الحكومي”.
انهيار الخدمات!
للمرّة الأولى، تأتي حكومة في الكويت لتُحذّر بهذا الوضوح من مخاطر استمرار الأوضاع المالية والاقتصادية الحالية، ومن حجم التبعات الكبرى لاستمرار الاعتماد على النفط كمصدر وحيد للدخل. وفي ذلك بصماتٌ واضحة لرئيسها الشيخ محمد صباح السالم الصباح، المُخضرم والخبير الاقتصادي، الذي ضمّن برنامج حكومته تحذيرات وتنبيهات وعبارات لم يجرؤ أيّ من أسلافه على الاقتراب منها، أهمّها:
“إذا استمرّت الأوضاع المالية والاقتصادية بالتدهور (…) فإنّه يُخشى الوصول إلى نتائج خطيرة ليس أقلّها: تعثّر الأفراد والشركات والبنوك والمؤسّسات، وارتفاع معدّلات البطالة إلى حدّ خطير، وانهيار الخدمات الاجتماعية، وتدهور الأمن الاجتماعي بشكل مترافق مع تضخّم كبير في تكاليف العيش”.
دقّ رئيس الحكومة ناقوس الخطر، لكنّه في الوقت نفسه أعرب عن ثقته بالقدرة على الإنجاز في ظلّ العهد الجديد الذي يفيض بالعزم والتفاؤل والمسؤولية الوطنية
– “في ظلّ تذبذب أسعار النفط (….) تواجه دولة الكويت اليوم تحدّياً استثنائياً خطيراً يهدّد قدرتها على الاستمرار في توفير الحياة الكريمة للمواطنين واحتياجاتهم الأساسية وعدم القدرة على الإيفاء بالالتزامات المحلّية والدولية”.
– “إنّ العجز في الميزانية العامّة للدولة خلال الخمس سنوات المقبلة، من دون المضيّ بالإصلاح الاقتصادي والماليّ، من المتوقّع أن يصل إلى إجمالي 45 – 60 مليار دينار” (أي نحو 146 – 195 مليار دولار).
لا جوائز للبرلمان
دقّ رئيس الحكومة ناقوس الخطر، لكنّه في الوقت نفسه أعرب عن ثقته بالقدرة على الإنجاز في ظلّ العهد الجديد الذي “يفيض بالعزم والتفاؤل والمسؤولية الوطنية”، انطلاقاً من إيمانه الراسخ بأنّ استمرار دولة الرفاه بات مُهدّداً بشكل حقيقي.
منذ تشكيله الحكومة منتصف الشهر الماضي وحتى تقديم برنامج عملها بعد نحو 3 أسابيع، رسَمَ محمد صباح السالم مساراً سياسياً في التعامل مع مجلس الأمّة، يختلف كلّياً عن مسار الحكومات الثلاث السابقة، فلا استرضاءات ولا جوائز ولا مجال للمقايضات، وإنّما تعاون دستوري – قانوني قوامه: الحكومة تحكم والبرلمان يُشرّع ويُراقب، وهو “شريك في معركة التنمية”، لكنّه ليس شريكاً في السلطة التنفيذية.
فلسفة رئيس الحكومة
من خلال مواقفه وما تضمّنه برنامج حكومته، يمكن القول إنّ فلسفة رئيس الوزراء الجديد للمرحلة المقبلة ترتكز على 3 أولويات كبرى:
الأولى، أنّ هناك خللاً هائلاً في الاقتصاد، لا بدّ من الشروع في تعديله وإصلاحه فوراً، عبر تغيير دور الحكومة من مُهيمن إلى مُسهّل ومُساعد ومُساند للقطاع الخاص، الذي يجب أن تُسند إليه مهمّة خلق عشرات آلاف الوظائف لاستيعاب حاجات السوق بدل إيلاء المهمّة للدولة. يتكامل ذلك مع استثمار جغرافية الكويت من خلال “تطوير المنطقة الإقليمية الشمالية (المحاذية للحدود مع العراق) لتكون معبراً دولياً ومحطة رئيسية توفّر الحلول والخدمات التحويلية للتجارة الدولية”، بما يؤدّي تدريجياً إلى خلق مساحات اقتصادية واسعة بعيداً عن الدولة، تقود في نهاية المطاف إلى استدامة الرفاه الاقتصادي والاجتماعي للمواطنين.
– الثانية، تصحيح الخلل في الرواتب بالقطاع الحكومي من خلال إرساء ميزان عادل يسري على الجميع (في الكويت قد يتقاضى مهندس يعمل في النفط 3 أضعاف راتب مهندس آخر بالمستوى التعليمي والخبرة نفسيهما يعمل في أيّ وزارة أخرى أو قطاع آخر)، بالإضافة إلى إعادة النظر في الدعم الذي تقدّمه الدولة للمواطنين بحيث يكون موجّهاً إلى الفئات المحتاجة إليه، وذلك لدعم الطبقة الوسطى وتثبيتها في المجتمع، لأنّ “انكماشها وتحلّلها يفتحان الباب “لميكروبات” العنصرية والطائفية والقبلية التي تنخر المجتمع، ولتحوّله من فاعل إلى فاشل”، على حدّ وصف رئيس الوزراء في لقاء جمعه مع رؤساء تحرير الصحف الكويتية وممثّلي وسائل الإعلام الإثنين الفائت.
– الثالثة، الاستثمار في الثروة البشرية وتطوير رأس المال البشري، وتوسيع الفضاءات لتكنولوجيا المعلومات والذكاء الصناعي، بما يساهم في الاستدامة أيضاً.
انطلاق القطار
تشي مرتكزات الحكومة الجديدة بأنّ الوقت للعمل وليس للمُناكفات والصراعات مع مجلس الأمّة، وأنّ القطار انطلق بسرعة عالية، وأنّ هناك جدّية تامّة في التحرّك قبل فوات الأوان لأنّ التأخير سيؤدّي إلى “تفاقم” كلفة الإصلاح ويجعل التبعات “قاسية ومؤلمة”.
نظريّاً، يُعتبر البرلمان شريكاً للحكومة في أيّ مسار تنموي – إصلاحي، لكن في بلد مثل الكويت ليس سهلاً أن يوافق النواب على مسار كهذا، ليست فيه زيادات رواتب وعطايا للمواطنين وملفّات شعبوية وموادّ للمزايدات الانتخابية، لأنّ غالبيّتهم يعتقدون أنّ كراسيهم في البرلمان مرتبطة بمدى قدرتهم على رفع أصواتهم خلال الجلسات أو المؤتمرات الصحافية للمطالبة بـ”حقوق الشعب”، التي يرون أنّها مُتركّزة في دائرة واحدة هي: الدعم الماليّ الحكومي.
إقرأ أيضاً: الكويت تنفتح على “عَدْوى” التحوّل السعوديّ
على الرغم من أنّ الإصلاح المالي والاقتصادي في أيّ بلد له ارتدادات شعبية سلبية على المدى القصير وربّما المتوسّط، لكنّ الكويت أمام فرصة فريدة ترى الحكومة ضرورة استغلالها من دون إبطاء، وهي أنّ تغيير المسار الحالي لا يتزامن مع ضغط اقتصادي، فالوضع المالي جيّد حالياً، وميزانية الدولة متماسكة وحيوية على الرغم من وجود العجز، وهو ما يتيح هامشاً معقولاً للحكومة للتحرّك باتجاه إرساء القواعد الجديدة، تجنّباً لتكرار ما حدث في صيف عام 2020، إبّان أزمة “كورونا” وما رافقها من أزمات اقتصادية، عندما خرج وزير المالية في ذلك الوقت براك الشيتان ليقول علناً إنّ الحكومة عاجزة عن سداد الرواتب، وإنّه “في غياب الاقتراض، سيتعيّن على المدى المتوسط والطويل، تطبيق المزيد من إجراءات التقشّف على الإنفاق العامّ”، و”خلال عدّة عقود، سينفد صندوق الأجيال المقبلة، وهو ما يؤثّر على رفاهية المواطنين والدولة”.