ليلة سقوط قتيلين على كوع الكحّالة، لم يبقَ في ذاكرة كثيرين سوى تلك المرأة النحيفة، بوجهها المصفرّ من الحزن، وصوتها العالي، وأفكارها المنظّمة، وغضبها المكثّف. تلك التي وقفت أمام الكاميرات وراحت تدعو إلى تسليح المسيحيين، متوجّهة إلى البطريرك الماروني بشارة الراعي بأنّ “عليك أن ترفع إصبعك مثله وتحمينا”، وإلى رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع والكتائب اللبنانية وإلى “نمور الأحرار لتعود أيام داني شمعون وبشير الجميّل وبيار الجميّل وجبران تويني وكلّ الذين قتلوهم”، لتطلب: “نريد سلاحاً. سلّحونا لندافع عن أنفسنا”.
توجّهت أيضاً إلى “الشيعة” من دون أن تسمّيهم: “فليتطبّبوا ويتعلّموا في مناطقهم وليس في مناطقنا، ونطلب التقسيم، فليعيشوا في زبالتهم ونحن راضون بزبالتنا، والسلاح يقابله سلاح، والزعرنة تقابلها الزعرنة، والدم يقابله الدم”. وأضافت: “حسن نصر الله بلا الغطاء المسيحي ولا شي، دون الغطاء المسيحي لم يكن ليصل إلى أيّ مكان”.
“السلاح في الداخل”. هذه هي الجملة السحريّة التي تختصر مأساة السياسة في لبنان منذ عام 2004، منذ محاولة اغتيال الوزير مروان حمادة، وبعده اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما تلاه من اغتيالات وتفجيرات، وصولاً إلى 7 أيّار 2008 وما تلاه من اغتيالات وتفجيرات… وليس انتهاءً بتفجير مرفأ بيروت وأحداث الطيّونة والكحّالة وشويّا وخلدة.
هذا السلاح الذي دخل الحياة السياسية بعد 4 سنوات من تحرير جنوب لبنان في عام 2000، وبات هو يصنع السياسة، هامشاً ومتناً، منذ ذلك الحين، قبل أن يتوسّع ليساهم في صناعة السياسة بدول عربية كبيرة، منها القريبة، ومنها البعيدة.
تمّوز 2006 – أيّار 2008
في كلّ مرّة شعرت القيادة السياسية للشيعة أنّها “انتصرت”، كانت تستحضر ذكريات “الفقر السياسي” و”العَوَز العسكري”. كأيّ فقير، في لحظات المجد والنجاح، يتذكّر الليالي التي باتها بلا عشاء، والأيّام الصعبة التي صنعت منه “ذاك الباسلَ الخطِرَ”.
بعد حرب تمّوز نشر الحزب “منطق” ماسحي الأحذية: “كان هدف الحرب أن نعود ماسحي أحذية”. قالها قادتهم. وماسح الحذاء يستلزم وجود “طائفة” أخرى أرفع مرتبةً، وأعظم شأناً، كي يمسح لها أحذيتها. وهنا زبدة الحكاية، وزَبَدُ أمواجها.
خلال حرب تمّوز، وصف قادة “الثنائي الشيعي” حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بأنّها “حكومة المقاومة”. بعدها تحوّل السنيورة إلى “صهيونيّ”، وحكومته باتت “متآمرة”. فحاصره رجال الحزب في الاعتصام الشهير، بعد أقلّ من 4 أشهر فقط من نهاية الحرب. حاصروا السراي، وطالبوا بانتخابات مبكرة وبإسقاط الحكومة التي لا يملكون قرارها، على الرغم من أنّه لم يكن هناك قوات إسرائيلية في السراي.
كان ذنب السنيورة والحلف السياديّ أنّهم طلبوا إبقاء “قرار الحرب والسلم” بيد الدولة. لكنّها أمنية سرعان ما ستتبخّر مع مياه وجوه طالبيها، حين سيأتي هذا السلاح ويحاصرهم “في الداخل”.
بين كانون الأوّل 2006 و7 أيّار 2008 ثمانية عشر شهراً قضاها الحزب ومناصروه في الشوارع، في مناوشاتٍ وتبادل إطلاق نار، من الجامعة العربية إلى قصقص والكولا ووسط بيروت… وكانت المحصّلة عشرات القتلى والجرحى، قبل أن تحين لحظة “الاجتياح الكبير”.
بعد حرب تمّوز نشر الحزب “منطق” ماسحي الأحذية: “كان هدف الحرب أن نعود ماسحي أحذية”. قالها قادتهم. وماسح الحذاء يستلزم وجود “طائفة” أخرى أرفع مرتبةً، وأعظم شأناً، كي يمسح لها أحذيتها. وهنا زبدة الحكاية، وزَبَدُ أمواجها
في هذه الأثناء كانت التفجيرات والاغتيالات تنشط كما كان الحال قبل حرب تموز، وكما استمرّ بعد 7 أيّار. وقبلها وبعدها كان نواب الأكثرية والوزراء محاصرين في فنادق تحميها القوى الأمنيّة.
لكن في أيّار المفصليّ، اجتاحت قوات مدرّبة تدريباً عالياً العاصمة بيروت والقرى الدرزية في جبل لبنان، لإخضاع القيادتين السنّيّة والدرزية، مع تحييد المسيحيين، لأنّ “تفاهم مار مخايل” مع ميشال عون كان كافياً لضمان “الأكثرية المسيحية” إلى جانب الحزب.
هكذا كان: ذهب القادة اللبنانيون إلى الدوحة في قطر بعد الاجتياح، ووقّعوا معاهدة استسلام، حصل الحزب بموجبها على “حقّ الفيتو” في النظام اللبناني، بـ”الثلث زائداً واحداً” في الحكومات اللاحقة. وهو تعديل واعتداء على اتفاق الطائف ظلّ مستمرّاً وصار عرفاً سياسياً.
هذا بعدما كانت الحكومة، التي رأسها فؤاد السنيورة (2005 – 2008)، تتّخذ قراراتها على الرغم من استقالة الوزراء الشيعة منها. أهمّ هذه القرارات المصادقة على نظام المحكمة الدولية في جريمة اغتيال الحريري.
5 أيّار: سلاح الإشارة واليوم المجيد
بعد اجتياح بيروت والجبل في 7 أيّار، خرج الأمين العامّ للحزب، وقال لجمهوره إنّه كان “يوماً مجيداً من أيام المقاومة”. بالطبع لم يكن هناك قوات إسرائيلية في بيروت ولا في بلدات دروز وليد جنبلاط في الجبل، ولا كان هناك من هو قادر على تفكيك شبكة سلاح الإشارة في ضاحية بيروت الجنوبية، كما ورد في قرار الحكومة اللبنانية المتّخذ في 5 أيّار، باعتبار أنّها الحجّة التي استعملها الحزب للانقضاض على خصومه السياسيين.
لا يوجد قوات إسرائيلية في خلدة، ولا في شويّا. لكنّ خطاب الحزب وإعلامه الرديف يصفهم إمّا بـ”الصهاينة” أو “المغرّر بهم”. وبالتالي فإنّ الحزب يحتاج دوماً إلى إسقاط “الأسرلة” على خصومه في الداخل، لتبرير قتالهم وقتلهم
“المجد” الذي ربطه الأمين العامّ في “الوعي الجماعي” الشيعي مرتبط إذاً بـ”حقّ الفيتو” السياسي “في الداخل”. لا علاقة لإسرائيل به. فكما أنّ المحكمة الدولية طلبت توقيف المتّهمين باغتيال الحريري، وأجابها بأن “لا في 30 يوماً، ولا 30 سنة، ولا 300 سنة” يمكنها توقيفهم، كان يمكن إصدار موقف مشابه ليلة 5 أيّار. لكنّ الاجتياح كان مدبّراً لانتزاع تعديل أساسي في اتفاق الطائف، هو “حقّ الفيتو” الشيعي على عمل الحكومة.
كان هذا التدخّل العسكري الأكثر وضوحاً في رسم المستقبل السياسي للبلاد، من فوهة البندقية. وهو “في الداخل” لا علاقة له بـ”الخارج” أو إسرائيل أو سلاح الإشارة. “ينبعُ” مجدُهُ من أنّه خطوة إضافية على سلّم “حكم لبنان”: قدرة تعطيل أيّ قرار حكومي، إلى جانب الإمساك بمفتاح مجلس النواب، ثمّ رئاسة الجمهورية في 2016. وهي سابقة في تاريخ لبنان، لم تحصل عليها أيّ قيادة مذهبية.
الكحّالة وشويّا وخلدة…
من هنا يمكن محاولة فهم “كوع الكحّالة”. هو يشبه “كوع شويّا”: شاحنة صواريخ أوقفها أهالي شويّا، البلدة الدرزية في قضاء حاصبيا، الدرزي تاريخياً بين جنوب لبنان وبقاعه. وكان ذلك قبل عامين تماماً من الكحّالة. ويشبه “كوع خلدة”، حيث وقعت معارك دامية بين مقاتلي الحزب وأهالي المنطقة، عرب خلدة، من أهل السُّنّة.
لا يوجد قوات إسرائيلية في خلدة، ولا في شويّا. لكنّ خطاب الحزب وإعلامه الرديف يصفهم إمّا بـ”الصهاينة” أو “المغرّر بهم”. وبالتالي فإنّ الحزب يحتاج دوماً إلى إسقاط “الأسرلة” على خصومه في الداخل، لتبرير قتالهم وقتلهم. هذا ما حصل في خلدة والكحّالة على الأقلّ، وكاد في شويّا.
إذا كان الحزب قد استثمر “انتصاره” التمّوزيّ في “الثلث المعطّل”، فإنّه، هو العائد من “انتصاره السوريّ”، يريد “جائزة” سياسية مشابهة. ونحن الآن في المرحلة التي تشبه مرحلة “كانون الأوّل 2006 – أيّار 2008”.
إقرأ أيضاً: حادثة الكحّالة “ما بتقطع”… ولو قطعت
الطيّونة والكحّالة… و”حقّ” المرور
في الطيّونة، أراد جمهور الحزب “حقّ المرور” من قلب عين الرمّانة للوصول إلى “قصر العدل” قرب المتحف. وفي الكحّالة أراد مقاتلو الحزب “حقّ المرور” لإيصال أسلحة وذخيرة. ولا يحقّ لأهل عين الرمّانة أن يسألوا المارّين عن هدف مرورهم ومجرى سيرهم. كذلك لا يحقّ لأهل الكحّالة أن يسألوا إلى أين تذهب هذه الأسلحة: لتقتل الياس الحصروني كما قال سمير جعجع؟ أم لتقتل عناصر “فتح” في عين الحلوة؟ أم لتُعِدّ لمعارك تشبه 7 أيّار؟
– في تمّوز 2006 فقدت الدولة “قرار الحرب والسلم”.
– في أيّار 2008 بات السلاح هو صانع السياسة لا الانتخابات.
– بعد شويّا والطيّونة والكحّالة بات لبنان “مشاعاً” للحزب، ولا يحقّ لأحد السؤال.
إنّه الداخل. ما يحرّك الحزب وقيادته وجمهوره هو “خطاب ماسحي الأحذية” وليس العداء لإسرائيل. “حُكم لبنان” هو المنطلق والهدف النهائي. إسرائيل باتت شمّاعة كما هو حال الأنظمة التي حكمت عقوداً بهذه الشمّاعة. والجمهور يعرف، و”الجمهور عايز كده” أيضاً.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mdbarakat@