القرنة السوداء: الدم لا يجعل الباطل حقّاً.. (1/2)

مدة القراءة 9 د


أما وقد توضّحت التحقيقات الأمنية والقضائية والأجزاء التي كانت غامضة في جريمة القرنة السوداء، فإنّ الكلام عن السياق الذي أوصل إلى هذه النقطة الحسّاسة صار ممكناً، لا بل واجباً. هذا السياق كان الغائب الأكبر عن كلّ السرديّات التي سيقت في التقارير الإعلامية الكثيفة التي بُثّت أو كُتبت عقب الجريمة، ما خلا بعضها التي ذكرته إنّما بشكل مبتور أو منقوص، فغدا ما حصل وكأنّه نزاع على ملكيّة أرض سائبة أو مشاع، وهذا غير صحيح.
ما أسهم في بلوغ الاحتقان الطائفي ذروته حتّى كاد أنْ يوشك على الانفجار هو توحّد أغلب النخب المسيحية خلف الشعبوية، ليس لإحقاق الحقّ ومعاقبة من ارتكبوا جريمة القتل، بل سعيا للحصول على مكاسب “جيوسياسية” فيما هرول الكثير من الزعماء السُنّة إلى استرضاء أهل بشري مسلمين بالاتهام الموجه لأهالي بقاعصفرين قبل ظهور نتائج التحقيق. مواقف مهما عَظُمَت لا تساوي قيمتها الدماء التي سُفكت. كُثُرٌ أمعنوا في تصوير أبناء بقاعصفرين قطّاعَ طرق، ومحتلّين لأرض ليست لهم، ومغتصبين لحقوق، ومافيات تقيم الحواجز، وتنصب الدشم والمتاريس. وهذا كلّه وهمٌ وسراب، حسب ما أثبتته التحقيقات، وما تشير إليه الوقائع التاريخية المعزَّزة بالأدلّة والبيانات.

عودة إلى التاريخ
حينما أنشأت سلطات الانتداب الفرنسي دولة لبنان الكبير، قامت بترسيم الحدود الإداريّة لكلّ محافظة ومدينة وقرية. وحسب هذا الترسيم، دخلت القرنة السوداء ضمن الحدود الإدارية والجغرافية لبلدة بقاعصفرين، التي وصلت وقتها إلى “بركة اليمّونة”، قبل أنْ يتمّ إجراء بعض التعديلات عليها وتأخذ شكلها الحالي. تقول مرجعيات بشرّي إنّ لديها مستنداً عائداً إلى حقبة متصرفيّة جبل لبنان في العهد العثماني، يثبت أنّ القرنة السوداء كانت تابعة لها.
فلماذا لم يقُم أهالي ووجهاء بشرّي بالعمل على استرداد ما يعتبرونه حقّهم السليب في كيان وُجد من أجل الموارنة، ووقوفاً على خاطرهم، وفي ظلّ حكم المارونية السياسية؟ لماذا لا توجد أيّ مراسلة أو وثيقة بهذا الخصوص في الأرشيف الفرنسي العائد لفترة الانتداب؟ لو كان هناك شيء من هذا القبيل، أو حتّى طلب شفهي مدعوم من الكنيسة المارونية ما كان بوسع أيّ مندوب سامٍ فرنسي أنْ يتأخّر عن تلبيته. والحال عينه في فترة حكم المارونية السياسية التي استمرّت منذ الاستقلال حتى اندلاع الحرب الأهليّة.
عام 1968، صدر مرسوم بإنشاء بلدية بقاعصفرين بمساحة تبلغ 100 كيلومتر مربّع، وبحدود جغرافيّة تصل إلى ما بعد القرنة السوداء بقليل. مع ذلك لم يُسجَّل أيّ اعتراض في حينها. وهذا المرسوم موجود في خزائن وزارة الداخلية والبلديات. الإشكالات حول مياه ثلّاجات القرنة السوداء بدأت عام 1998، وهو العام الذي شهد إجراء أوّل انتخابات بلدية بعد الحرب، وعودة القوى المسيحية المعارضة للوصاية السورية إلى الواجهة.

يهمس المتابعون للقضية بأنّ “الرئيس ميقاتي ما أصدر قرار إحياء لجنة بتّ النزاعات إلّا استدراجاً للقوّات لتسليفهم خدمة سياسية. وبالفعل فقد جمّد القرار بعد اتّصال فقط من النائبة ستريدا جعجع، وحجّته جاهزة: وأد الفتنة”

بعدئذٍ تطوّرت الأمور إلى إطلاق نار على رعاة الماشية وقطعانهم، وأحياناً على أبناء بقاعصفرين كما  حدث في عام 2005 عقب خروج زعيم القوات اللبنانية وابن بشرّي الدكتور سمير جعجع، لكنّ بلدية بشري ومرجعيّاتها اتّهموا طابوراً خامساً بافتعال هذه الحوادث، فيما كانوا يسيّرون دوريّات لإزالة ما يعتبرونه تعدّيات على أرض ليست أرضهم، من دون أيّ تكليف رسميّ بذلك. يُجمع من تحدّثنا إليهم من بقاعصفرين على وجود رابط معنوي بالحدّ الأدنى بين تطوّر مسار الإشكالات والاعتداءات من قبل أبناء بشرّي وبين تطوّر حضور رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع في المعادلة السياسية، وسيطرته على تمثيل بشرّي نيابياً وبلدياً. واللافت أنّ مسار الإشكالات اتّخذ طابعاً أكثر زخماً وحدّة عقب اتّفاق “أوعا خيّك”، الذي جعل من جعجع شريكاً مفترضاً للعهد العوني.

الدولة: القرنة السوداء في بقاعصفرين
عام 2020، انتخب مجلس بلدية بقاعصفرين بلال زود رئيساً للبلدية. ولأنّه محامٍ وخبير بالقوانين ودهاليزها، وثّق منذ انتخابه حتى حصول الجريمة 32 حادث إطلاق نار من قبل أشخاص من بشرّي، وتقدّم بموجبها بإخبارات إلى القضاء. بيد أنّ أحداً لم يتحرّك، وحُفظت جميع القضايا في “ثلّاجة” الدولة. يكشف زود في حديث لـ”أساس” عن قيام شركة بولونيّة بإجراء دراسة للمنطقة بتكليف من الدولة عام 2008، وترسيم نقاط حدود الأقضية بين الهرمل وبشرّي والضنّية، وتثبيت الملكيّة العقارية للقرنة السوداء لبقاعصفرين.
أكثر من ذلك، يشير زود إلى أنّه “عند حدوث نزاع أو خلاف مدني في القرنة السوداء، ينظر فيه القاضي المنفرد في الضنّية. وهو ما حصل في حوادث إطلاق النار والاعتداءات السابقة، التي حُوّلت جميعها إلى فصيلة سير الضنّية. حتّى رخص البناء والإفادات العقارية في القرنة السوداء يتمّ الاستحصال عليها من أمانة السجلّ العقاري في دائرة الشمال الأولى، التي تشمل طرابلس والضنّية والمنية، وليس من أمانة السجلّ العقاري في الشمال الثانية، التي تشمل الكورة والبترون وزغرتا وبشرّي. وبالتالي لا يوجد نزاع على ملكيّة القرنة السوداء، فهي محدّدة وفق مرسوم إنشاء بلدية بقاعصفرين عام 1968، وواضحة باعتراف الدولة ومؤسّساتها”. علاوة على أنّ أمين السجلّ العقاري في الشمال (قبل التقسيم) أصدر تقريراً في آب 2014 وأرسله إلى محافظ الشمال أكّد فيه حرفيّاً أنّ “القرنة السوداء ضمن قضاء الضنّية”.
يرفض زود تحويل القضية إلى القاضي العقاري الذي تضغط بعض القوى والنخب المسيحية من أجل حصوله. ويبيّن مرجع قانوني أنّ القاضي العقاري ينظر في نزاعات الملكية بين الأفراد، ولا صلاحية له في تحديد الحدود العقارية للأقضية، فـ “حدود القضاء لا تتغيّر بقرار محكمة، بل بحاجة إلى قانون”. في حين يذكّر زود بالقاعدة القانونية بأنّ “المرسوم لا يلغى إلّا بمرسوم”. ما دام الأمر كذلك، فلماذا الإصرار على الاحتكام إلى القاضي العقاري؟
لا يوجد شيء في لبنان غير مرتبط بالسياسة وأوزان القوى التمثيلية والطوائف والمذاهب. فالقاضي العقاري المُراد تحويل الملف إليه هي القاضية تيريز مقوّم المقرّبة من القوّات، والتي منحها وزير العدل جرعة دعم معنوي هائلة من على منبر بكركي، مع أنّه يعرف أكثر من غيره، وهو قاضٍ، أنْ لا صلاحيّة قانونية لها.

المسيحيّون: الخصم والحكَم
عام 2019، أصدر قاضي الأمور المستعجلة في بشرّي جو خليل قراراً بإيقاف مشروع “بركة سمارة” في “جبل المكمل”، الذي كان يقوم بتنفيذه “المشروع الأخضر” في وزارة الزراعة، متذرّعاً باعتراض وزير البيئة حينذاك فادي جريصاتي على خرق القرار الصادر عام 1998، والذي قضى بتصنيف المنطقة بين المواقع الطبيعية الخاضعة لحماية وزارة البيئة ويُحظر فيها جميع أنواع الحفر لاستغلال مياه المتساقطات على ارتفاع أكثر من 2,400 متر.
القرار برمّته مخالف للقانون، فلا صلاحيّة مكانيّة لقضاء بشرّي في النظر بالقضية. لكنّ الضغوطات السياسية التي قادتها النائبة ستريدا جعجع أتت أُكلها، والتي شملت زيارة للرئيس نبيه برّي للطلب منه التدخّل لوقف المشروع. لذا ليس مفاجئاً أنْ لا حليف سنّيّاً للقوّات إلّا النائب أشرف ريفي.
“لماذا كلّ الذين يتابعون جريمة مقتل هيثم ومالك طوق مسيحيّون، أين القضاة المسلمون؟”. هذا هو لسان حال أبناء بقاعصفرين. القاضية العقارية تيريز مقوّم، قاضية التحقيق سمرندا نصّار. من أعطى الإشارة القضائية هي المحامية العامّة الاستئنافية في الشمال ماتيلدا توما، في حين غاب تماماً المدّعي العام الاستئنافي في الشمال القاضي زياد المصري الشعراني، وهو من كان يجب قانوناً أنْ يفعل ذلك. وأيضاً مدّعي عام التمييز غسان عويدات الذي اشتكى حسب المعلومات من تجاوزه، لكنّه كظم غيظه ولم يتواصل مع قيادة الجيش واستخباراتها من أجل التصحيح.

يكشف زود في حديث لـ”أساس” عن قيام شركة بولونيّة بإجراء دراسة للمنطقة بتكليف من الدولة عام 2008، وترسيم نقاط حدود الأقضية بين الهرمل وبشرّي والضنّية، وتثبيت الملكيّة العقارية للقرنة السوداء لبقاعصفرين

هل السُّنّة أهل ذمّة؟
يهمس المتابعون للقضية بأنّ “الرئيس ميقاتي ما أصدر قرار إحياء لجنة بتّ النزاعات إلّا استدراجاً للقوّات لتسليفهم خدمة سياسية. وبالفعل فقد جمّد القرار بعد اتّصال فقط من النائبة ستريدا جعجع، وحجّته جاهزة: وأد الفتنة”. أيّ مقام وأيّ هيبة بقيت لرئاسة الحكومة في تراجعها عن قرار لم يجفّ حبره بعد؟
أكثر من ذلك، بدا وزير الداخلية والبلديّات بسّام مولوي المسؤول الأوّل عن أمن البلاد، والذي تتبع البلديّات لوزارته، غير معنيّ بالجريمة ولا بتفاعلاتها الخطيرة وكأنّها حصلت في بلد آخر، مع أنّه يملك مفتاح الحلّ المتمثّل بالإفراج عن مرسوم إنشاء بلدية بقاعصفرين.
يعترض بعض أهالي بقاعصفرين ووجهائها أيضاً على ما يرونه استنسابية الجيش الذي ألقى القبض على 9 أشخاص من البلدة مقابل شخصين فقط من بشرّي كانا إلى جانب هيثم طوق حينما اشتبكت مجموعتهم مع شباب من بقاعصفرين. “أين الأشخاص الآخرون الذين شاركوا في إطلاق النار؟ ولماذا لم يُلقَ القبض على أفراد المجموعة البشرّانيّة التي اشتبكت مع الجيش وأطلقت النار على عناصره بعد شيوع خبر مقتل هيثم طوق؟”. وممّا يجدر ذكره أنّ “3 مجموعات مسلّحة من شباب بشرّي توجد بشكل دائم في القرنة السوداء، كلّ واحدة منها مكوّنة من 5 إلى 10 أشخاص، والقتيلان من آل طوق كانا من أفراد هذه المجموعات”، وذلك حسب المعلومات التي حصلنا عليها من أبناء بقاعصفرين.

إقرا أيضاً: القصّة الكاملة لأحداث القرنة السوداء؟

يطرح أبناء البلدة المعادلة التالية: “ماذا لو أنّ الاشتباك الذي حصل أدّى إلى وفاة شخص أو أكثر من بقاعصفرين، ولم تنجم عنه وفاة أحدٍ من بشرّي، هل تكون ردّة الفعل هي نفسها؟”، إضافة إلى أنّ ثمّة من يرى استنسابية في طريقة تعاطي الجيش مع القضية. فهو لا يحقّ له قانوناً طرد الرعاة من ملك خاص، فبدا وكأنّه يمهّد الطريق لتنفيذ مخطّط تغيير هويّة القرنة السوداء، ولا سيّما أنّه تمدّد في انتشاره إلى مسافات بعيدة، وأقام نقاط تفتيش قرب جبل الأربعين الذي يبعد قرابة ساعة ونصف عن القرنة السوداء. فهل ينحاز الجيش إلى الطرف الأقوى سياسياً؟
“من معه حقّ ليس بحاجة إلى أحد”، يقول رئيس بلدية بقاعصفرين بلال زود، ويضيف مختارها عمّار صبرا: “صمتنا من باب احترامنا لحرمة الدم وقدسيّته، ولإطفاء نار الفتنة، لكنّنا نعمل على تشكيل لجنة مشتركة من قضاء المنية والضنّية لمتابعة القضيّة سياسياً وقضائياً وشعبياً”.

 

*الحلقة المقبلة من بشرّي

مواضيع ذات صلة

إسرائيل تتوغّل جنوباً: هذه هي حرّيّة الحركة!

بعد انقضاء نصف مهلة الستّين يوماً، الواردة في اتّفاق وقف إطلاق النار، ها هي القوّات الإسرائيلية تدخل وادي الحجير. ذلك الوادي الذي كان في عام…

الموقوفون الإسلاميّون… ملفّ أسود حان وقت إقفاله

عاد ملفّ الموقوفين الإسلاميين إلى الواجهة من جديد، على وقع التحرّكات الشعبية المطالبة بإقرار (العفو العام) عفو عامّ لحلّ هذا الملفّ، الذي طالت مأساته على…

الجماعة الإسلامية: انقلاب يقوده الأيّوبيّ ومشعل

إذا أردت أن تعرف ماذا يجري في “الجماعة الإسلامية”، فعليك أن تعرف ماذا يجري في حركة حماس،  وعلاقة الفرع اللبناني بالتحوّلات التي تشهدها حركة حماس……

لا تعهّد إسرائيليّاً بالانسحاب

قابل مسؤولون إسرائيليون الشكاوى اللبنانية من الخروقات المتمادية لقرار وقف إطلاق النار، بسرديّة مُضلّلة حول “الانتشار البطيء للجيش اللبناني في جنوب الليطاني، بشكل مغاير لما…