مشكلة المتكلّمين بالعقائد هي في اختلاسهم لأنفسهم بعض السلطات الإلهية، وفي إصرارهم على تصنيف الناس بدون أيّ مبرّر، مع ما لهذا التقسيم من نتائج كارثية قد تؤدّي إلى إثارة فتن داخل المجتمع الواحد والمدينة الواحدة، وربّما ضمن العائلة الواحدة.
منزلة بين المنزلتين
غداة الحروب السياسية في عصر الخلافة الراشدة، بداية من فتنة مقتل الخليفة عثمان بن عفان، ثمّ موقعتَيْ “الجمل” و”صفّين”، اندلع جدل حادّ، ونقاشات حامية الوطيس، حول السؤال الذي شغل جمهور المسلمين وعلماءهم: من هو المحقّ ومن هو المخطئ؟ وهو السؤال الذي لا يزال مطروحاً مذّاك حتى يومنا هذا. ثمّ انحرف النقاش نحو المخطئ نفسه: هل هو كافر أم مؤمن؟ مع ما لذلك من تبعات.
في العصر العباسي، عصر نشأة المذاهب والفرق الإسلامية، خرجت “المعتزلة” برأي وسيط، في محاولة لوضع حدّ لهذا النقاش، لما كان له من آثار سلبية كبيرة من ناحية تقسيم الناس بين كفّار ومؤمنين، مع ما يستتبع ذلك من حسم مآل الكافرين بأنّهم أهل النار، وإباحة قتلهم، أو على الأقلّ تهميشهم. قالت “المعتزلة” بأنّ مرتكب الكبيرة ليس بكافر ولا بمؤمن، إنّما هو في “منزلة بين المنزلتين”.
من المعروف أنّ حماس هي جزء من تنظيم الإخوان المسلمين. وبالتالي فمن البديهي أن يكون لهذا المشروع بطرحه السياسي معارضون كثر، ولا سيما أنّ حركات الإسلام السياسي لا تحظى بتأييد واسع في العالم العربي
ثمّ عاد الإمام أبو حامد الغزالي، الذي جمع بين الفلسفة والتصوّف، واستخدم الفكرة نفسها، للإجابة على سؤال: “هل الإنسان مسيَّر أم مخيَّر؟”. فبعد اعتزال الناس وتمحيص المسألة، قال الغزالي إنّ “الله حرّ مخيّر مطلق التخيير، والمادّة الجامدة مسيّرة منتهى التسيير، والإنسان في منزلة بين المنزلتين”. أي أنّه مخيّر مسيّر في الوقت ذاته، مخيّر بمقدار ومسيّر بمقدار.
والحال أنّ السُّنّة اليوم، وبخاصة في لبنان، يبدون بحاجة ماسة إلى الفكرة نفسها، للخروج من إسار الخطاب المقفل، السائد منذ عملية “طوفان الأقصى”، القائم على ثنائية الكفر والإيمان، حيث تناثرت مصطلحات التكفير بسرعة في مواجهة أيّ معارضة سياسية لحركة حماس، وخاصة تحالفها مع نظام الملالي الإيراني، الذي لا ينظر إليه السنّة إجمالاً بعين الرضا بعدما لمسوا مآثره في العراق وسوريا.
كذلك الحال بالنسبة لأيّ تساؤل عن جدوى العملية من أصله، بالنظر الى المذبحة الكبرى التي يتعرّض لها أبناء غزة، والتي قد تتجاوز في آثارها النكبة التي ابتليت بها الأمّتان العربية والإسلامية عام 1948. بحسب تقرير صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية، فإنّ الدمار الذي لحق بشمال قطاع غزة في أقلّ من 7 أسابيع، يشبه الدمار الذي تسبّب به القصف المستمرّ لسنوات على المدن الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية.
المؤمنون والمنافقون
حماس ليست حركة مقاومة فقط، بل هي مشروع كبير عرف كيف ينطلق من الصفر ويبرع في تجاوز كلّ المعوّقات والاغتيالات التي تعرّض لها قادتها وروّادها الأوائل، حتى وصل إلى ما هو عليه اليوم. ضمن هذا المشروع، الذي قد يتجاوز القضية الفلسطينية إلى الفضاءين العربي والإسلامي، ثمّة عدّة أجنحة:
– العسكري المتمثّل بـ”كتائب عز الدين القسام”.
– والدعوي والسياسي وغيرهما.
من المعروف أنّ حماس هي جزء من تنظيم الإخوان المسلمين. وبالتالي فمن البديهي أن يكون لهذا المشروع بطرحه السياسي معارضون كثر، ولا سيما أنّ حركات الإسلام السياسي لا تحظى بتأييد واسع في العالم العربي.
بيد أنّ معارضة حماس أو حركات الإسلام السياسي وطروحاتها شيء، والموقف من القضية الفلسطينية شيء آخر. وهنا بالضبط تكمن المعضلة السنّية المستجدّة، حيث يجري خلط، بعضه بريء، وبعضه الآخر متعمّد، بين دعم القضية الفلسطينية ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وبين الموقف السياسي من حركة حماس، التي حتى ما قبل 7 تشرين الأول الماضي لم تكن تتمتّع بتأييد كبير لدى سنّة لبنان.
السُّنّة ليسوا مع حماس سياسياً، وبالطبع معادون لإسرائيل، أي أنّهم عملياً في منزلة بين المنزلتين، فهم مع “فكرة” مقاومة الاحتلال الإسرائيلي أيّاً كان حاملها، وهذه المنزلة عريضة وتضمّ الشطر الأوسع من السنّة، ومن اللبنانيين والعرب
التساؤل عن جدوى عملية “طوفان الأقصى” مثلاً، الذي أجاب عليه قادة حماس أنفسهم لمرّات عديدة، قوبل باستهجان واسع، وباستخدام مصطلحات قرآنية مثل “المنافقين”، و”المرجفين”، وإسلامية مثل المثبّطين، في الخطاب الشعبي، وفي النقاشات العامّة وعبر شبكات التواصل والمجموعات الإخبارية. وكذلك في الخطاب الديني، حيث عمد بعض رجال الدين إلى استخدام منابرهم وذخيرتهم العلمية من أجل كتم أيّ صوت معترض، واتّهامه بتوهين شعور الأمّة. حتى إنّ بعضهم طالبوا من يتشكّك في جدوى ما فعلته حماس بمراجعة إيمانه! علماً أنّ من المقولات الشهيرة في التراث الإسلامي: “أيُفتى ومالك في المدينة؟”. ويقصد به الإمام مالك بن أنس، صاحب المذهب المالكي، أحد المذاهب الأربعة عند السنّة، وكان فقيهاً شديد الحرص على الدقّة والموضوعية في الفتوى ولُقّب بـ”سيّد الأئمّة”. حتى إنّه يُنقل عنه أنّه عُرض عليه ذات مرّة نحو 40 مسألة، فردّ على 32 منها بـ”لا أعلم”.
السؤال الذي يطرح نفسه: هل لحماس دور في تسويق هذا الخطاب؟ ذلك أنّ ثمّة تنسيقاً وربّما أكثر بينها وبين عدد من الإعلاميين والناشطين الذين يروّجون له. ومن الملاحظ التركيز الشديد على التجريح ببعض الزعماء العرب دون غيرهم، مع استثناء النظامين الإيراني والسوري، بما يتّسق مع التموضع السياسي لحماس.
عودة سيّد قطب
تكمن خطورة هذا الخطاب في أنّه يختصر القضية الفلسطينية وكفاحها منذ أكثر من قرن بحركة حماس فقط، وهو ما تسعى إليه إسرائيل والدول الغربية التي صارت تمنع الكوفيّة والعلم الفلسطيني مع أنّهما ليسا رمزاً لحماس بل لفلسطين.
يُعمل أيضاً على زيادة حّدة الاستقطاب، وتأطير الدعم للقضية الفلسطينية وحشرها في أجندات سياسية ضيّقة، مثلما هو الحال مع تأسيس “طلائع طوفان الأقصى” ومقترح الحزب قبله “شباب وحدة الساحات”.
يصبّ هذا الخطاب في خانة فرز السنّة إلى فسطاطين: جاهل أو كافر، ومؤمن. وهو تقسيم كان أوّل من تحدّث عنه سيّد قطب، أحد منظّري الإخوان المسلمين، في كتابه الشهير “معالم في الطريق”. وهذا التقسيم هو الذي أطلق شرارة الخطاب التكفيري، وأسهم في احتدام روح العداء ضمن المجتمع الواحد.
يظنّ من يسوّق لهذه الأفكار أنّه يخدم القضية الفلسطينية، وأبعد منها الأمّة الإسلامية، فيما يخدم عملياً الأهداف السياسية لحماس ولمحور الممانعة. ذلك أنّ دعم وتأييد مقاومة الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية وما يسطّره مقاتلو القسام من إنجازات مبهرة لا يعنيان أبداً تحويلهما إلى رصيد سياسي لحماس ولا لمحور الممانعة بل للشعب الفلسطيني.
كانت القضية الفلسطينية قبل حماس، وقبل منظمة التحرير، وحركة فتح، وحتى قبل ولادة نظام الملالي الإيراني الذي يحاول أسر القضية تاريخياً وجيوسياسياً من أجل أهدافه التوسّعية. وستبقى حتى تتحرّر الأرض الفلسطينية، سواء بقيت هذه التنظيمات أم لا.
إقرأ أيضاً: أبو عبيدة: سنّة لبنان وجدوا زعيمهم… العسكري
السُّنّة في لبنان هم مع القضية الفلسطينية، وما دون ذلك فهم يتمايزون. ولذلك يمكن ملاحظة التراجع الملموس في التحرّكات السنّية الطابع الداعمة لفلسطين، بسبب خطاب الفسطاطين الذي ينفّر ولا يقرّب، ويلغي الآخر عوض أن يسعى إلى احتوائه. فتنوّع الآراء يثري النقاش ويضفي عليه حيويّة مطلوبة، ومفقودة في وقتنا الحالي.
هنا بالضبط تنطبق الفكرة المشار إليها في المقدّمة، إذ إنّ السُّنّة ليسوا مع حماس سياسياً، وبالطبع معادون لإسرائيل، أي أنّهم عملياً في منزلة بين المنزلتين، فهم مع “فكرة” مقاومة الاحتلال الإسرائيلي أيّاً كان حاملها، وهذه المنزلة عريضة وتضمّ الشطر الأوسع من السنّة، ومن اللبنانيين والعرب.