تتردّد عالياً في بيروت أصداء الأحداث التي اندلعت في فرنسا بعدما قتل شرطي شابّاً فرنسياً من أصول جزائرية. لكن لا يقتصر الأمر على تأثير هذه الأحداث في ترتيب الأولويّات الفرنسية داخلياً وخارجياً، وهو ما قد يفرمل ولو قليلاً انخراط باريس القويّ في المسألة اللبنانية. إذ تُظهر تطوّرات الأحداث الفرنسية بكلّ أبعادها الأمنيّة والسياسيّة والاجتماعية والثقافية أنّ فرنسا تواجه مشكلة جدّيّة وعميقة لن يزيدها الحلّ الأمنيّ الذي يلجأ إليه الرئيس إيمانويل ماكرون إلّا تعقيداً، وإن نجح هذا الحلّ في إخماد أو احتواء “انتفاضة الضواحي” على المدى القصير.
فرنسا الآن أمام تحدٍّ رئيسي بشأن شعارها السياسي والقيميّ الرئيسي منذ الثورة الفرنسية: “حريّة، مساواة، أخوّة”. فهذه الثلاثيّة تشكّل الركيزة القيميّة التاريخية للجمهورية الفرنسية، لكنّها الآن تواجه أسئلة مصيرية في ظلّ صعود خطاب التمييز ضدّ الفرنسيين من أصول مهاجرة، المدفوع بتقدّم خطاب اليمين لا في فرنسا وحسب بل في أوروبا كلّها.
تتردّد عالياً في بيروت أصداء الأحداث التي اندلعت في فرنسا بعدما قتلا الشرطة شابّاً فرنسياً من أصول جزائرية. لكن لا يقتصر الأمر على تأثير هذه الأحداث في ترتيب الأولويّات الفرنسية داخلياً وخارجياً
أزمة مركّبة
يحصل ذلك في ظلّ أزمة اقتصادية متفاقمة تزيد من مستويات التهميش الاجتماعي والتفاوت الطبقي، وهو ما يطال بتأثيراته سكّان الضواحي. وهي أزمة تحاصر ماكرون، خصوصاً بعد “فرضه” تعديلات على النظام التقاعدي أثارت احتجاجات نقابية وشعبية واسعة ضدّه. وبالتالي فإنّ النقمة ضدّ سياساته أصبحت راسخة في المجتمع الفرنسي، وهو ما يجعله نافد الصبر ويدفعه إلى تبنّي معالجات “يمينية” سريعة لمسألة الضواحي التي لم يحصل تقدُّم يُذكر بشأنها منذ عام 2005، عندما اندلعت ردّات فعل عنيفة في الشارع الفرنسي عقب مقتل يافعين من أصول مهاجرة خلال محاولتهما الهروب من الشرطة.
الأزمة الفرنسية مركّبة وليست بسيطة كما تحاول تصويرها شريحةٌ من اللبنانيين، وبالأخصّ من المسيحيين، تحاول تصويرها على أنّها مشكلةً ثقافيةً بحتةً مردّها إلى رفض الفرنسيين من أصول مهاجرة الاندماج في المجتمع الفرنسي “الأصيل” وتبنّي كامل منظومته القيمية. تشكّل هذه المقاربة ركيزة أساسية للطروحات الفدرالية الكثيرة في لبنان، إذ تُقدّم الفدرالية وكأنّها حلّ لمشكلة سلاح الحزب، بل ولمشكلة ثقافية بين اللبنانيين المنتمين إلى طوائف مختلفة.
مقاربة مشبوهة
هذه مقاربة ليست تبسيطية واختزالية وحسب، بل ومشبوهة ومتواطئة. فهي تعتبر أنّ المسيحيين جميعاً كتلة واحدة في أفكارهم ونمط عيشهم وأنّهم جميعاً يتمنّون تقسيم لبنان والعيش ضمن جغرافيا مسيحية.
لذلك فإنّ دعاة الفدرالية هم غير ديمقراطيين، إضافة إلى أنّهم مفصولون عن الواقع ويتعاملون مع اللبنانيين مسلمين ومسيحيين من منطلقات “استشراقية”. ووفق المنطق نفسه يفترض هؤلاء الفدراليون أنّ المسلمين جميعاً، وتبعاً لمذاهبهم، كتلة ثقافية واحدة، وأنّهم جميعاً راضون بواقعهم السياسي، وخصوصاً الشيعة الذين يحتكر تمثيلهم السياسي ضمن النظام الطائفي الحزب وحركة أمل.
هذه هي الخطورة المبدئية الرئيسية التي يمثّلها الطرح الفدرالي. ولذلك يجب أن يعامَل دعاته بالمثل، أي أن يُقال لهم علناً إنّ طرحهم “فوقيّ” وغير ديمقراطي، وإنّه جواب وهميّ بل وهزليّ على مشكلات جدّية يعانيها لبنان، وأهمّها مشكلتان:
– أولاهما مشكلة سلاح الحزب التي تضرب أسس الدولة وإمكان تحديثها وترسّخ الستاتيكو الكارثي سياسياً واقتصادياً.
– وثانيتهما الأزمة الاقتصادية المتواصلة منذ عام 2019 والتي أسقطت آخر معالم الدور الاجتماعي للدولة على اختلالاته. وبالتالي كشفت الفئات المهمّشة أمام توحّش السوق وجعلتها أكثر عرضة للاستغلال السياسي والطائفي. وفي المقابل زادت في ثروات التجّار والناشطين في السوق السوداء على أنواعها.
إذاً غفل دعاة الفدرالية عن قصد عن المشكلة الاقتصادية ونتائجها السياسية والاجتماعية الكارثية وصوّروا في المقابل المشكلة الرئيسية في لبنان أنّها ثقافية بين المسلمين والمسيحيين.
سيحصل المسيحيون على “وعد” باللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة، كما هي حال وعود “مجلس الشيوخ” وحلّ سلاح الميليشيات والانسحاب السوري، في “اتفاق الطائف”
مناخ مسموم
الحوار الموعود بين الأفرقاء اللبنانيين، الذي يكثر الكلام عن أنّ فرنسا سترعاه، قد يجري في ظلّ مناخ فرنسي ولبناني “مسموم”. ففرنسا – ماكرون لا تشبه فرنسا – جورج كليمنصو أو شارل ديغول، في ظلّ الاتجاهات اليمينية الراديكالية والنيوليبرالية التي تسود فيها والتي تجعلها أقلّ اكتراثاً بتقديم حلول “إنسانية” لأزمات العالم بما فيها الأزمة اللبنانية.
المقاربة الفرنسية لأيّ حوار لبناني تقوم على قراءة موازين القوى ومحاولة ترجمتها في أيّ اتفاق لحلّ الأزمة. بعبارات أخرى، لا تضع فرنسا سقفاً قيميّاً للحوار الذي يُروَّج أنّه سيتناول أسس النظام السياسي. وهو ما يعني أنّ إسقاط “اتفاق الطائف” سيتمّ إلى الوراء وليس إلى الأمام. فالبحث في أسس جديدة للنظام سيأخذ في الاعتبار بالدرجة الأولى مطالب الجهة الأقوى في لبنان، أي الحزب وسلاحه وبيئته، وليس كيفيّة دفع النظام السياسي إلى مساحات تقدّمية على المستوى الوطني والديمقراطي، سواء لجهة معالجة المسألة الطائفية في النظام، أو لجهة ضبط تحكّم فئة متمكّنة سياسياً وطائفياً بالاقتصاد اللبناني.
هنا مكمن التواطؤ في الطروحات الفدرالية، إذ تتجاهل حقيقة موازين القوى في لبنان وحقيقة المقاربة الفرنسية للوضع اللبناني القائمة أساساً على أولوية الحوار مع الحزب بوصفه الجهة الأقوى داخلياً بفضل تلقّيه دعماً متواصلاً من إيران التي تتحسّن علاقاتها العربية والدولية. وهو ما قد ينعكس على أيّ مفاوضات معها بشأن لبنان. وهذه حقيقة أخرى يتجاهلها دعاة الفدرالية وتعديل “التركيبة”. وبالتالي سيوفّر الطرح الفدرالي ذريعة أخلاقية وسياسية للحزب لتقديم نفسه الجهة الأحرص على وحدة لبنان و”العيش المشترك”، بينما هو في الواقع يحاول الإمساك بمقاليد الحكم بلبنان، وهذه المرّة على أساس نصوص مكتوبة بدلاً من السلاح والقمصان السود، بغضّ النظر عن النتائج الكارثية لهذا الإمساك على وحدة لبنان و”العيش المشترك”.
ضمانات خارجيّة
لذلك فإنّ أيّ حوار بين الأفرقاء اللبنانيين سيتمخّض عنه اعتراف خارجي بحصّة أوسع للحزب في تركيبة الحكم، بدءاً من رئاسة الجمهورية، مروراً بمجلس الوزراء، وصولاً إلى البرلمان وسائر التعيينات الإدارية والعسكرية. وهذا هو معنى “الضمانات” التي يتحدّث عنها الحزب. هو الذي لا ينتظر ضمانات من أفرقاء أضعف منه في الداخل.
إقرأ أيضاً: الفيدرالية: وحدَها تحمي السلاح
في المقابل سيحصل المسيحيون على “وعد” باللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة، كما هي حال وعود “مجلس الشيوخ” وحلّ سلاح الميليشيات والانسحاب السوري، في “اتفاق الطائف”. مع الاتفاق على وضع الآليّات التنفيذية لهذه اللامركزية لاحقاً، وهو ما قد يبقيها حبراً على ورق تماماً كما حصل مع البنود الإصلاحية في اتفاق الطائف، سواء إلغاء الطائفية السياسية أو تطبيق اللامركزية الإدارية الموسّعة. وهذه كلّها أسباب كافية لاعتبار أنّ ما ينتظر لبنان أسوأ ممّا كان، لأنّ الحوار الموعود سيكرّس منطق الهيمنة الطائفية مرّة جديدة في متن الدستور بعدما حاول اتفاق الطائف معالجتها، وهذا ما سيدفع لبنان إلى الغرق مجدّداً في وحول أزمة أخطر وأكثر تفجّراً، لكن يبدو أنّ التاريخ اللبناني يعيد نفسه كلّ مرّة بطريقة أكثر تراجيديّة من سابقاتها!