العنف سمة المرحلة… الجيش: الحلّ في السياسة وليس أمنياً

مدة القراءة 6 د


كلّ شيء يُنبئ باحتدام أكبر في لغة الشارع. النسخة “المتطوّرة” من ثورة 17 تشرين بدأت بالانفلاش في المناطق حتى قبل أن تقرّر الحكومة الرفع التدريجي لحالة التعبئة العامة. في الساعات الماضية أوحى “الأوصياء” على الشارع في مواجهة عُقم المشهد السياسي المالي أنهم يملكون الورقة الأقوى: هي معركة الأمتار القليلة وليس هناك أيّ شيء لنخسره!

قدّمت موقعة صيدا وطرابلس الدموية بروفة لتحرّكات متوقّعة تبدو أكثر عنفاً ممّا شهدته الانتفاضة على مدى الأشهر الماضية. في طرابلس والبقاع وبيروت امتداداً الى الطريق الساحلي وصولاً الى صيدا، بدأت معالم غضب شعبي عارم لا أحد قادر على تحديد سقوفه في ظل “أسباب موجبة” و”موجعة”  تمنح الغطاء الشرعي لتحرّكات الأرض. لا يبدأ الأمر بـ “هذيان” الدولار في مقابل الليرة التي تتهاوى بسرعة قياسية ولا ينتهي بالفلتان غير المسبوق حتى في عزّ الحرب الأهلية في أسعار السلع الغذائية مع ممارسة بعض التجار أفعالاً جرمية برفع الأسعار من 3 الى 6 أضعاف دون مبرّر، عن سابق تصوّر وتصميم، بجشع زيادة الأرباح من أكياس الجائعين والفقراء والمعدمين.

إقرأ أيضاً: رصاصة عسكرية وإهمال طبي مريب… اللحظات الأخيرة لـ”شهيد الغدر” فواز السمّان

ولا تكتمل الصورة سوى بالعجز الحكومي عن ردع المُجرمين عن أفعالهم إن كان على مستوى المتلاعبين بسوق الصرف أو المتاجرة المفضوحة في لقمة اللبنانيين أو العجز الرسمي عن تأمين مستلزمات مقوّمات الصمود بعد دخول الدولة على مدى شهرين نظام الـ shut down.

ويبدو أنّ الشارع لن ينتظر ما ستقدّمه الحكومة على مستوى الإجراءات الاستثنائية في مجال مكافحة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة والمحوّلة الى الخارج في ظلّ واقع يحاول المتظاهرون فرضه عبر “أخذ الحق باليد”. والأسماء المدرجة على لائحة الاتهام طويلة يصعب معها فصل الحسابات السياسية عن حسابات أصحاب الحقوق والجائعين والمتمرّدين على الأمر الواقع.

هي معادلة تعيد مجدّداً طرح إشكالية الشارع و”الشرعية” الممثّلة بالقوى العسكرية والأمنية للسلطة والقدر المسموح في ممارسة الحق الطبيعي الذي كفله الدستور بانتزاع الحقوق المهدورة على مدى الحكومات المتعاقبة.

عملياً، تدرك القوى الأمنية أنّها أمام مشهد بالغ الدقة والحساسية قد يكون الأخطر منذ بدء الانتفاضة، وقد شكّل شهيد طرابلس فؤاد السمّان جرس إنذار لها. وفيما تركّزت الأنظار على “مدينة الفقراء” حيث بلغ التصعيد مداه مقارنة بباقي المناطق إلا أنّ مصادر أمنية تفيد بأنّ التصعيد العنفي في أكثر من منطقة سيكون سِمة المرحلة. فحتّى بيروت قد شهدت ليل الثلاثاء الماضي محاولات لاقتحام الأسواق وعمق المنطقة الأمنية المحيطة بمجلس النواب لكن تمّ التصدّي لها في موازاة التحركات في النقاط التقليدية”. وتلفت المصادر إلى أنّ بعض التحرّكات “أخذت طابعاً سياسياً من خلال قطع الطرقات، والهوية السياسية لبعض من نزل الى الشارع وتحديداً في مناطق “تيار المستقبل” كانت واضحة. لكن ذلك لا يحجب واقع أن السِّمة العامة للمتظاهرين ترتبط بدوافع محض ذاتية بالتعبير عن حجم الاعتراض على الواقع القائم، ووجهتها تركّزت خلال الأيام الماضية على المصارف ومنازل بعض السياسيين ومصرف لبنان”.

والجيش المُتمركز في الصفوف الأمامية في مواجهة شارع ثائر، بحسابات متعدّدة، يحاذر الانزلاق إلى فخّ الفوضى. في تلك الشعرة الفاصلة بين إتاحة الجيش للمنتفضين ايصال رسائلهم وبين أن تتحوّل هذه الرسائل إلى برميل بارود يفجّر ما تبقّى من “شبه دولة”. في اليرزة لا مخطّط ولا نيّة لعسكرة الأزمة أو تقمّص دورٍ ليس في أجندة القيادة العسكرية.

بعيداً عن “إتيكيت” الالتزام بموجب التحفّظ يقرّ ضباط في المؤسّستين الأمنية والعسكرية بأنّ “الوقوف بوجه المتظاهرين هو وقوف ضدّ الذات لأنّ المطالب والحقوق والمعاناة واحدة، واليأس من السلطة السياسية مشترك. رواتبنا طارت كما رواتبهم بفعل الارتفاع الجنوني في سعر صرف الدولار”.

ويعترف الضباط بأنّ “القوى الأمنية والعسكرية تواجه التحدّي الأصعب لها في حماية المتظاهرين ومنع الفوضى في واقع مأساوي. فالضابط في الميدان بات راتبه الإجمالي يوازي ما بين 600 و700 دولار والعسكري 250 دولاراً. أما سلسلة الرواتب فتبخّرت وسبقها “تشحيل” من حقوق العسكر، كلّ ذلك في حالة استنفار عام منذ 17 تشرين استنزف الكثير من جهد العسكر ومعنوياتهم”.  

يضيف هؤلاء: “تبقى الأمور قابلة للسيطرة إلا حين يأخذ العنف مداه. وفي هذه الحال هناك قرار سياسي متّخذ تلتزم به المؤسسة العسكرية بحماية الممتلكات العامة والخاصة ومنع الفوضى التي ستعني انهيار الهيكل فوق رؤوس الجميع”.

وفق المعلومات، سيعقد في الساعات القادمة اجتماع لقادة الوحدات والقطعات في الجيش لأخذ التوجيهات ودرس الاحتمالات الممكنة لتحرّك الشارع وأسلوب المواجهة وفق الظرف والمكان والحالة

ولا يزال الجيش على رأيه قبل وبعد أزمة كورونا. الحلّ بالسياسة وبالاقتصاد وليس بالأمن. ولن يكون الجيش بأيّ لحظة، وفق مصادره، في موقع قمع المتظاهرين إلا حين يتمّ تجاوز الخط الأحمر، وهي سِمة ظهرت بوضوح في تحرّكات طرابلس مؤخّراً حيث تعرّض الجيش والقوى الأمنية لاعتداءات صريحة ومحاولة محاصرة العسكر. وهنا يستحيل عدم الردّ وإلا سيفسّر الأمر في إطار التخاذل بالدفاع عن النفس والدولة والشرعية. وفي حال تكرّر هذا الأمر سيُواجَه بالأسلوب نفسه. لكن مع خطّ أحمر آخر، فلا استخدام للرصاص الحيّ تحت أيّ ظرف وضد أيّ متظاهر”.

وتضيف المصادر: “هناك تناسب في استخدام الأسلحة، فحين يتعرّض الجيش لإلقاء قنابل مولوتوف وقنابل دخانية عليه وحجارة وأدوات حادة أو حربية يتمّ الردّ تدريجاً وفق درجة الاعتداء مع محاذرة إطلاق الرصاص الحيّ إلا في الهواء وفي حالة الخطر الشديد”.

ووفق المعلومات، “سيعقد في الساعات القادمة اجتماع لقادة الوحدات والقطعات في الجيش لأخذ التوجيهات ودرس الاحتمالات الممكنة لتحرّك الشارع وأسلوب المواجهة وفق الظرف والمكان والحالة”.  

وقد أعاد مشهد طرابلس إلى الأذهان ما حصل في البداوي في تشرين الأول الماضي في ظلِ قرارٍ سياسي يومها بفتح الطرق بالقوة، ما أدّى الى وقوع عددٍ من الجرحى بين المتظاهرين ووفاة أحدهم لاحقاً. وتقول المصادر: “يومها لم تكن الوفاة نتيجة الرصاص الحيّ بل المطاطي كما حصل في طرابلس ليل الاثنين، مع العلم أنّ هناك إصابات أخرى جميعها بالرصاص المطاطي. وهناك تحقيقات فتحت في أكثر من منطقة، كما في حادثة الناعمة مثلاً، بأمر من القيادة العسكرية لتبيان الحقائق ولمزيد من الشفافية. فالأخطاء واردة وقيادة الجيش منفتحة بالكامل على مبدأ المحاسبة وتحمّل المسؤوليات وحتّى التعويض على المتضرّرين”.

وذهبت المراجعة الذاتية لدى المؤسسة العسكرية إلى حدّ حذف فيديو بعد دقائق قليلة من نشره على الموقع الرسمي للجيش بعنوان “هيك ردّ الجميل” يٌظهر العسكر يوزّعون المساعدات بالتزامن مع اشتباكات طرابلس. لم يُعرف صاحب هذه الفكرة “العبقرية” التي أحرجت قيادة الجيش، وشوّهت موقفها من الأزمة. وسريعاً أدركت اليرزة خطأ الرسالة التي أوحت بـ “تمنين” الناس بالعمل الإنساني، فيما هدف المؤسسة العسكرية العمل بصمت من دون استعراضات يتقنها الآخرون!

 

مواضيع ذات صلة

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…