صبّت العمليات الفدائية الفلسطينية ضدّ المستوطنين في الضفّة الغربية الزيت على نار الخلافات الإسرائيلية الداخلية لتزيدها اشتعالاً وسط عجز الحلول الأمنيّة عن مواجهتها.
فجّرت عملية الخليل التي وقعت عصر الإثنين وقُتلت فيها مستوطنة وأصيب آخر بجروح خطيرة، بعد أقلّ من 48 ساعة على مقتل مستوطنين قرب نابلس، اتّهامات متبادلة، انصبّ جلّها على وزير الحرب يوآف غالانت، وبعضها الآخر على رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو.
انطلق هذا التراشق بالاتّهامات من شعور المستوطنين بالضفّة بفقدان الأمن، وازدياد وتيرة العمليات الفدائية، وعجز الحلول الأمنيّة عن منعها، لكنّه عكس في الوقت نفسه حالة التجاذب بين الفرقاء داخل إسرائيل، وبدا أنّه فرصة للمماحكة السياسية وتسجيل النقاط، وتحميل كلّ طرف المسؤولية للطرف الآخر.
صبّت العمليات الفدائية الفلسطينية ضدّ المستوطنين في الضفّة الغربية الزيت على نار الخلافات الإسرائيلية الداخلية لتزيدها اشتعالاً وسط عجز الحلول الأمنيّة عن مواجهتها
الصدام بين السياسي والأمني
يعكس هذا التراشق حالة الصدام المتصاعدة بين المستويين السياسي والأمنيّ، والحكومة والمعارضة، فقادة اليمين المتطرّف، أمثال إيتمار بن غفير، صوّبوا سهام انتقادهم لوزير الجيش غالانت وحمّلوه مسؤولية عملية الخليل، ارتباطاً بموقف غالانت من خطة الإصلاح القضائي، وتحريضه عليها من خلال اتّهامها بالتسبّب في الإضرار بكفاءة الجيش الإسرائيلي، وهي المواقف التي اعتبرها اليمين تمرّداً على الحكومة.
رافق هذا التراشق الإسرائيلي تحريضٌ يدفع ثمنه الفلسطينيون، إذ قال بن غفير إنّ سياسة التراخي الأمني التي يطبّقها غالانت هي سبب عملية الخليل، وإنّ خطة العمل بالضفّة غير مفهومة وغير مناسبة للتطوّرات، مطالباً بالعودة إلى سياسة الاغتيالات، وإغلاق القرى بالضفّة، وإعادة الحواجز. وشاركته في الموقف وزيرة الاستيطان أوريت ستروك، التي اتّهمت غالانت بالامتناع عن اتّخاذ قرارات كان من شأنها منع وقوع عملية الخليل، مثل منع الفلسطينيين من المرور في الشوارع الالتفافية. وفي المقابل حمّل وزير الجيش الأسبق أفيغدور ليبرمان المسؤولية لنتانياهو وحكومته قائلاً إنّ “حكومة نتانياهو هي صاحبة الأرقام القياسية من حيث عدد الذين قُتلوا بعمليات مسلّحة، ويجب أن يرفع أحدهم الراية الحمراء لنتانياهو بعد فقدانه السيطرة على كلّ شيء، وهو يقودنا إلى الدمار”.
محاولات نتانياهو
يحاول نتانياهو إمساك العصا من منتصفها، فهو لا يريد زيادة الانتقادات للمؤسّسة العسكرية والأمنيّة وقادتها خشية أن يؤدّي ذلك إلى ردود فعل سلبية، خاصة في ظلّ اتّساع ظاهرة رفض أداء الخدمة العسكرية، وزيادة الحديث عن تراجع كفاءة الجيش الإسرائيلي وعدم جاهزيّته للحرب، ولا يريد إغضاب قادة المستوطنين وأحزاب الصهيونية الدينية، الذين يكفلون له البقاء بالحكومة.
ضمن هذه المعادلة يحاول نتانياهو نقل الصراع إلى ساحة ثالثة بعيداً عن أداء حكومته، وهذا ما يفسّر اتّهامه من مكان عملية الخليل، إيران وحلفاءها بالوقوف خلفها، مهدّداً بالردّ على ذلك، وهو ما وجده غالانت فرصة التقطها وأكّدها قائلاً: “أهمّ تغيير على الأرض يتعلّق بالتمويل والتوجيه الإيرانيَّين”، وذلك لتبرير فشله الأمنيّ الذريع في منع العمليات الفلسطينية.
لم يمرّ هذا الهروب إلى الأمام من نتانياهو وغالانت لدى الأوساط الإسرائيلية مرور الكرام، فقد وصف بعضهم ذلك بـ “المخجل جدّاً”، ومنهم المحلّل رفيف درورك الذي قال: “ربّما هناك محاولة لليمين للإفلات من الورطة التي علقنا فيها، ولا يوجد من يتّهمه الآن. لا يوجد إيهود باراك، ولا أهارون باراك، ولا المحكمة العليا”، مشيراً إلى أنّه “لا يوجد من نتّهمه. إذاً لنرمِ هذا على إيران”.
لا تملك حكومة اليمين حلولاً لمواجهة العمليات الفدائية بالضفة، فمنذ آذار 2022 أطلق جيش الاحتلال عملية “كاسر الأمواج” لاجتثاث المقاومة، وعاد إلى الاغتيالات بالطائرات واقتحام المدن والقرى، ورفع وتيرة الاعتقالات والملاحقات والعقوبات الجماعية وهدم المنازل، لكنّ ذلك لم يوقف سلسلة العمليات، وهو ما دفع قائد القيادة المركزية بالجيش الإسرائيلي الجنرال يهودا فوكس إلى الاعتراف بفشل الجيش في التصدّي للعمليات الفلسطينية في حوارة والخليل، قائلاً: “لفترة طويلة لم نكن نعرف مثل هذه الموجة من العمليات، هذا الأسبوع لم ننجح في إحباطها”.
يعلم نتانياهو أنّ المطلوب منه القيام بخطوة ما من أجل تهدئة الانتقادات الموجّهة إليه، وخاصة أنّ الوضع الأمني يزداد تفجّراً. ونظراً لأنّه يتجنّب دخول مواجهة مفتوحة مع أيّ جبهة، فإنّه قد يقوم بعمل أمنيّ أو عسكري في إحدى الساحات، بشكل سرّي، وبذلك يرضي اليمين المتطرّف، ويمسح الغبار عن قوّة ردع الجيش المتآكلة، وربّما التفويض الذي حصل عليه مع وزير الجيش غالانت من “الكابينت” الإسرائيلي مساء الثلاثاء الماضي بالردّ على العمليات يرجّح اللجوء إلى عمليات اغتيال نوعية.
فجّرت عملية الخليل التي وقعت عصر الإثنين وقُتلت فيها مستوطنة وأصيب آخر بجروح خطيرة، اتّهامات متبادلة، انصبّ جلّها على وزير الحرب يوآف غالانت، وبعضها الآخر على رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو
تصاعد العمليات الفدائية
يزداد الواقع الأمني بالضفة تعقيداً بالنسبة لإسرائيل، فقد بلغ عدد القتلى في عمليات المقاومة منذ مطلع العام الجاري 35 إسرائيلياً، وهو العدد الأعلى منذ نهاية الانتفاضة الفلسطينية الثانية، إلى جانب 200 تحذير من عمليات محتملة للمقاومة، وهو رقم غير مسبوق منذ عام 2005، وبلغ عدد القوات الإسرائيلية المنتشرة بالضفة رقماً غير مسبوق منذ 15 عاماً، في حين يدّعي جهاز “الشاباك” إحباط 350 عملية إطلاق نار منذ بداية 2023، بينما الألوية النظامية في الجيش الإسرائيلي فقدت 30% من أيام تدريبها بسبب مهامّ بالميدان نتيجة الوضع الأمنيّ.
ما يُقرأ على الأرض من وضع أمنيّ متصاعد يشير إلى أنّ العمليات الفدائية بالضفّة ستستمرّ وتتصاعد خلال الفترة المقبلة، وتحديداً ضدّ المستوطنين، بينما سيكثّف المستوطنون ضغوطهم لتبنّي سياسة أكثر دموية ضدّ الفلسطينيين. وقد تظاهر قادة المستوطنين صباح الثلاثاء أمام منزل رئيس الحكومة، مع استمرارهم بالتحريض على الحكومة واتّهامها بالتقصير على غرار ما قاله رئيس المجلس الإقليمي الاستيطاني يوحاي دماري من أنّ “ما يجري هو فشل مَن يُفترض به أن يحمي المواطنين الإسرائيليين في كلّ مكان”، داعياً إلى تغيير استراتيجية العمل بشكل جوهري من أجل مواجهة “الإرهاب” الفلسطيني.
من جهته، قال عضو الكنيست من “الليكود” دان إيلوز، في تغريدة على تويتر، إنّ “العمليات الفلسطينية تجري واحدة تلو أخرى، ولا توجد حكومة”، داعياً إلى استعادة “قوّة الردع” من دون انتظار، ومنع الإرهاب من أن يرفع رأسه، بينما قال رئيس مجلس مستوطنات شمال الضفة يوسي داغان: “نشهد انتفاضة في طور التكوين هنا، ولسوء الحظّ لا تقدّم الحكومة الإسرائيلية الردّ المناسب”.
يدفع اليمين الشريك في الحكومة، ومن خلفه المستوطنون، نحو انتهاج حلول أمنيّة وعسكرية متطرّفة ضدّ الفلسطينيين، إلى جانب إطلاق العنان للمشاريع الاستيطانية، من دون أدنى تقدير أنّ ذلك لن يشعل الضفّة لوحدها بل سيفجّر المنطقة. فخطّة سموتريتش القاضية بتهجير الفلسطينيين أو قتلهم والتي بدأ الترويج لها تعني بالنسبة للفلسطينيين نكبة ثانية، وبالتالي تُعدم الخيارات أمامهم.
إقرأ أيضاً: تطبيع فلسطينيّ…. في الاتّجاه الآخر
تدرك أصوات عدّة داخل إسرائيل أنّ تركيبة الحكومة اليمينية وسياستها ستدفعان الفلسطينيين إلى المزيد من المقاومة المسلّحة، ومنها جنرال الاحتياط يسرائيل زيف الذي اعتبر أنّه “علينا أن نقرّر. هل نريد الحدّ الأقصى من الاندماج مع الفلسطينيين، أو الحدّ الأقصى من الانفصال عنهم؟ خطة سموتريتش التي كشف النقاب عنها، الأحد، والقاضية ببناء 155 بؤرة استيطانية، تعني الضمّ الفعليّ للضفة، وهذا يعني تعقيد الأوضاع وزيادة العمليات الفلسطينية”.
رأى زيف أنّ “وجود مستوطنين متطرّفين داخل حكومة الاحتلال عامل محفّز على تصعيد التوتّر في الأراضي الفلسطينية”، وأكّد أنّ ما تفعله الحكومة الآن يعود كيداً مرتدّاً مضاعفاً على الإسرائيليين، مضيفاً أنّ استمرار الصراعات الداخلية بإسرائيل يصبّ الماء على طاحونة الفلسطينيين، ويحفّز على المقاومة، لأنّه يمنحهم دعماً معنوياً.
*كاتب فلسطيني