يبدو أنّ ساعة الحساب في لبنان قد دقّت، خصوصاً بالنسبة إلى المتّهمين بالفساد، الذين سيتتابع صدور أسمائهم على لوائح العقوبات الأميركية. والأخيرة ستبدأ في إحراج المصارف والقضاء، إذا لم يقرّر هذان القطاعان أن يتفاعلا مع هذه العقوبات.
هو تطوّر نوعي أطلقته الخزانة الأميركية، بفرض عقوبات لا تتصّل بالعلاقة السياسية مع حزب الله، المصنّف كمنظّمة إرهابية، ولا تقتصر على قياداته وعناصره لناحية اتهامهم بدعم الإرهاب، بل تتجاوز هذا إلى تهم “الفساد”، بما يتجاوب مع مطالب الثوّار اللبنانيين، الذين تدخل ثورتهم بوجه “الفساد السياسي” عامها الثاني بعد أقلّ من شهر.
إقرأ أيضاً: رياض سلامة يغازل الأميركيين بـ”وقف الدعم”؟
هنا سيكون من الصعب حصر ردود الممانعين على العقوبات بأنّها تستهدف “المقاومة” بوجه إسرائيل، لأنّ الشخصيات المتهمة بالفساد والواردة أسماؤها على لوائح العقوبات، متّهمة بسرقة المال العام، أي أموال اللبنانيين، وبصرف النفوذ واستغلال السلطة، في إرساء مناقصات وقبض رشى، لحماية حزب الله وخدمةً له، أو تمويلاً لكياناته. والاتهامات الجديدة موثّقة بالأدلّة، وهي تُهم يعاقب عليها القانون اللبناني صراحة.
اللافت أنّ القضاء اللبناني لم يتحرّك، بعد مرور أكثر من أسبوع على إدراج الوزيرين السابقين يوسف فنيانوس وعلي حسن خليل على لوائح العقوبات. وجديد الخزينة الأميركية ما نشرته يوم الخميس الفائت، ضمن لائحة جديدة ضمّت عضواً في المجلس التنفيذي لحزب الله، وشركتين تجاريتين لبنانيتين، تبين أنّهما تابعتين لحزب الله، سرّاً، أو على الأقلّ تعملان لحسابه، وتموّلانه بشكل أو بآخر. لتُكمل بذلك الجزء الآخر من الصورة الرابطة لمشهد اتهام الوزيرين السابقين، وتضع النقاط على الحروف.
النبش في ملفات هاتين الشركتين في وزارتي المالية (علي حسن خليل) والأشغال (يوسف فنيانوس) “سيصيب الباحث بالذهول، لكثرة أعداد المشاريع وأحجامها وكيفية رسوّ المناقصات المختلفة عليها في كثير من المناطق اللبنانية”
الشركتان هما Arch Consulting و Meamar Construction، وبحسب الخزانة هما مملوكتان أو خاضعتان لسيطرة أو توجيه “حزب الله”، وتتعاطيان أعمال المقاولات. مصدر مطّلع على عمل هاتين الشركتين، كشف لـ”أساس” أنّ تعاملاتهما مع القطاع المصرفي اللبناني تتمّ بالليرة اللبنانية حصراً وليس بالدولار الأميركي، وأنّ كل تعاملاتهما “تخصّ سندات Bid Bond وPerformance Bond اللتين تُعنيان بدخول المناقصات الرسمية وتنفيذ المشاريع لحساب الدولة اللبنانية”. وهما “تحصلان على المشاريع عبر مناقصات تمرّ غالباً بمنتهى الانسيابية والسرعة، وتُلزّمان هذه المشاريع إلى شركات أخرى مغطّاة هي أيضاً من جهات سياسية تدور في الفلك السياسي نفسه”. ومن وزارة المالية كان يتمّ “دفع مستحقّاتهما عبر خطّ عسكري سريع، بدل التأخير الروتيني، وقبل الكثير من الشركات، وحتّى قبل المستشفيات التي تهتمّ بصحة الناس”.
بحسب المصدر، فإن اقتصار حسابات الشركتين على الليرة اللبنانية “قد يسمح للمصارف باستغلال هذه الثغرة لتجاهل العقوبات، خصوصاً أنّ حسابات الشركتين محلية، ولا تحوّلان أموالاً إلى خارج لبنان”، ما سيضع القطاع المصرفي أمام تحدٍّ جديد ومن نوع آخر، يجعله هو أيضاً عرضة للعقوبات إذا تجاهل الطلبات الأميركية.
النبش في ملفات هاتين الشركتين في وزارتي المالية (علي حسن خليل) والأشغال (يوسف فنيانوس) “سيصيب الباحث بالذهول، لكثرة أعداد المشاريع وأحجامها وكيفية رسوّ المناقصات المختلفة عليها في كثير من المناطق اللبنانية”. وهي بدورها دلالة مهمة جداً لإثبات إصرار الإدارة الأميركية على إضافة تهم الفساد إلى تلك المتعلّقة بتمويل الإرهاب وتبييض الأموال.
ولمزيد من التوضيح حول حجم أعمال هاتين الشركين، يمكن الذهاب إلى موقع “آرش” الإلكتروني، الذي ينشر عقوداً قيمتها مجتمعةً تزيد عن 180 مليون دولار، بين العامين 2000 و2017. إلى جانب عرض مسهب لجوائز حازتها وإنجازات حقّقتها، تنحصر بالشراكة مع البلديات والمؤسسات العامة في جنوب لبنان وبقاعه، أي البلديات التي يسيطر عليها “حزب الله” وحركة “أمل”.
أما حضور شركة “ميامار” العلني يكاد يُختصر بصفحة “فيسبوك” مقفلة وموقع غير محترف يعرض بعض المعلومات العادية جداً، مثل عنوان مقرّ الشركة، ورقم هاتفها. هذا لأنّ شركات مثل تلك “تقوم بواجبات التخفّي كاملة”، بحسب المصدر، وهذه المواقع الإلكترونية تكون عادة لزوم التمويه.
ومن أزمة المصارف الآتية مع لوائح العقوبات، نذهب إلى القضاء. فبحسب القانون اللبناني 44/2015 في مادته الأولى – النقطة 9، فإنّ “الرشوة وصرف النفوذ والاختلاس واستثمار الوظيفة وإساءة استعمال السلطة والاثراء غير المشروع” تدخل ضمن تُهم مكافحة تبييض الأموال وتمويل الارهاب. وهذا يعني أنّ سرقة المال العام هي جريمة يعاقب عليها القانون اللبناني، ويمنع المصارف المحلية بشكل صارم من التعامل مع أيّ شخص تثبت عليه هذه التهم.
تعاطي الخزينة الأميركية المستجدّ، يُعدّ اليوم بمثابة مرحلة انتقالية داعمة للناس الثائرين في الشوارع. مرحلة عنوانها “إنقاذ اللبنانيين” الذين فشلوا أو لم يستطيعوا، بسبب الأحزاب السياسية، معاقبة الفاسدين
في هذا الصدد تقول الخزانة الأميركية إنّ حزب الله “يستغلّ الاقتصاد اللبناني وموارده من خلال تلاعب سياسيين لبنانيين فاسدين يمنحون الشركات المرتبطة بالحزب عقودًا حكومية، وذلك لإثراء قادتهم، بينما يعاني الشعب اللبناني من خدمات غير كافية”، وأنّ “حزب الله تآمر مع مسؤولين لبنانيين، بمن فيهم وزير الأشغال العامة والنقل السابق يوسف فينيانوس، لتوجيه عقود حكومية بملايين الدولارات إلى الشركتين”.
الخزانة الأميركية تكون بذلك قد انتقلت من واجب معاقبة “تمويل الإرهاب” إلى معاقبة “تسهيل الفساد”، وهي تعرف جيداً أنّ الطبقة السياسية المحميّة من “حزب الله” والمدعومة منه لا بدّ أن تُعاقب خارجياً وداخلياً، والخزانة قد أولت نفسها وصياً على هذه المهمة”. وهناك حديث عن أنّ “اللوائح المقبلة ستضمّ أسماءً أقرب إلى معسكر 14 آذار، وأكثر عدداً من الأسماء التي تناقلتها الناس على مواقع التواصل الاجتماعي في الأيام العشرة الأخيرة”.
وعليه، فإن تعاطي الخزينة الأميركية المستجدّ، يُعدّ اليوم بمثابة مرحلة انتقالية داعمة للناس الثائرين في الشوارع. مرحلة عنوانها “إنقاذ اللبنانيين” الذين فشلوا أو لم يستطيعوا، بسبب الأحزاب السياسية، معاقبة الفاسدين. ولهذا، ثمّة احتمالات أكبر بإدراج فاسدين قد يكونون ربما على خصومة مع “حزب الله”، ولكنهم ليسوا بالضرورة غير فاسدين، وهذا بدوره سيُحرج القضاء والقطاع المصرفي اللذين يظهران بمظهر المتواطىء أو المهمل لواجباته في أضعف الإيمان. كما سيرتّب مسؤولية أكبر عليهما (القضاء والقطاع المصرفي) لكون الأول معني بملاحقة المخالفين، وليس انتظار الحكومات الخارجية حتى تمدّه بالأدلة والإخبارات وهو مكتوف الأيدي أو غائب عن السمع، فيما الثاني سيضيّق الخناق حول رقبته إن لم يلتزم بمقاطعة الفاسدين مثل الإرهابيين، والتبليغ عنهم إلى الجهات الرقابية والمصرفية المعنيّة…