مع فرض المصارف مطلع الأزمة المالية قيوداً استنسابية على التحاويل والسحوبات، بدأت رحلة البحث عن أساليب لتهريب الدولارات. ولمن لا يتذكّر، فقد شهد القطاع العقاري خلال الأشهر الأولى للانهيار فورة طلب ذكّرتنا لبرهة بأيام التهافت على العقارات.
فقد استغلّت المصارف تخوّف المودعين حتى تخفض حجم ميزانياتها. أما الطريقة الفضلى لتحقيق ذلك، فكانت تسييل العقارات…دولارات. كيف؟ هناك من اقترض من المصارف مقابل ضمانات عقارية. وآخرون يعانون من قروض متعثّرة. وغيرهم يرزحون تحت رحمة التدابير غير الشرعية التي انتهجتها المصارف التي تفتقر أصلاً الى السيولة. هكذا، حصلت المقايضات بأن قامت المصارف بإعطاء العقارات إلى زبائنها بدلاً من الودائع النقدية. أي أنّها عمليّاً دفعت بالعقارات بدلاً من المال النقدي. كثيرون قبلوا هذه المعادلة للتعويض عن أموالهم المحجوزة قسراً.
بالتوازي، شكل العقار منفذاً مناسباً لكلّ من يريد تحرير أموال من جهة، وتسديد ديون من جهة ثانية، فاقتضت المصلحة المشتركة الاعتراف بالشيكات المصرفية وسيلةً للتسديد والاستيفاء في السوق العقارية.
هنا تجدر الإشارة إلى أنّ المطوّرين من ذوي الميزانيات النظيفة من الديون فضّلوا الاحتفاظ بعقاراتهم بدلاً من تجييرها إلى شيكات أو ربما تحويلات مصرفية بعيدة عن متناول أيديهم.
شكل العقار منفذاً مناسباً لكلّ من يريد تحرير أموال من جهة، وتسديد ديون من جهة ثانية، فاقتضت المصلحة المشتركة الاعتراف بالشيكات المصرفية وسيلةً للتسديد والاستيفاء في السوق العقارية
في المقابل، عمد عدد من المودعين في الفترة الماضية إلى شراء عقارات بشيكات مصرفية لاعتقادهم أنّ هذه الطريقة تحافظ على قيمة أموالهم.
عن هذا الخيار تحديداً، يوضح الاستراتيجي في أسواق البورصة العالمية جهاد الحكيّم لـ”أساس” أنّ غالبية من استثمروا في العقار ظنّاً منهم أنهم يهرّبون أموالهم، قد خسروا مرّتين. ففي أيلول من العام 2019، نصحنا كلّ من يملك وديعة بالليرة اللبنانية أن يشتري عقاراً، وذلك من باب الاحتماء من احتمال تدهور سعر الصرف. كما رأينا أنّ من يملك أموالاً في الخارج، واجب عليه أن يتريّث.
وخلال مطلع الأزمة، كانت عملية تسييل الشيكات المدولرة تتمّ بحسم 10% من قيمة الشيك. ثم ولمدّة أطول، كانت تتحقّق بحسم 25% من القيمة. استغل المطوّرون العقاريون ما آلت اليه الأمور، فأقنعوا أصحاب الودائع بالدولار بانّ العقار وسيلة لتهريب الدولارات المحتجزة. برأيي ذلك غير صحيح، فبعد 4 اشهر من الأزمة كان كلّ شيك مصرفي يخسر 25 % من قيمته. كلّ من سيّل شيكاً مقابل دولارات نقدية في حينها حدّ من خسارته بشكل كبير. ثم إنّ بعض المصارف عمد في آب 2020 الى عرض على كلّ من يدخّل دولارات طازجة إلى النظام المالي ان يحصل بمقابلها على شيك بقيمة 2.9 ضعف هذه الأموال. إذا افترضنا أنّ من اشترى شقة أو عقاراً بشيك مصرفي آنذاك، يكون قد خسر اليوم نصف قيمتها، لأنه وببساطة لن يتمكن من بيعها بأكثر مما اشتراها. إلى ذلك، اصبحت قيمة الشيك تساوي 37% بدل 75%، ما يعني أنّ من يملك الـ”كاش” بوسعه بعد فترة شراء بدل العقار اثنين”.
يوضح الاستراتيجي في أسواق البورصة العالمية جهاد الحكيّم لـ”أساس” أنّ غالبية من استثمروا في العقار ظنّاً منهم أنهم يهرّبون أموالهم، قد خسروا مرّتين”
تخوّف المودعون على مصير ودائعهم، دفع عدداً كبيراً منهم إلى شراء العقارات كونها ضمانات عينيّة “يمكن” أن تكون أفضل في ظلّ الاوضاع الراهنة. وعلى الرغم من أنّ العقارات إلى حدّ ما ملاذ آمن، إلا أنها تخسر من قيمتها مع غياب الطلب والنقص في السيولة…
يتوقّع الحكيّم “انخفاضاً إضافياً في أسعار العقارات ( من حيت قيمتها بالدولار الحقيقي وليس المصرفي أو الوهمي)، إذ لا تصوّر للمرحلة المقبلة”. ويقول: “في العادة، لا يلجأ من يملك مدخرات إلى بيع العقار. لكن جنى العمر تبخّر، والانهيار بات شاملاً. الشركات تفلس. والمحلات تقفل. وأزمة العقارات ستتفاقم أكثر، ولن يكون هناك أيّ طلب جديد في المدى المنظور. فكلّما تأزّم الوضع الاقتصادي، ارتفعت نسب العقارات المعروضة. في المستقبل القريب، سيضطر الكثير من المواطنين إلى بيع عقاراتهم من أجل سدّ حاجاتهم الأساسية بعد الإطباق على مدخراتهم، وخسارة وظائفهم، وغياب أيّ مدخول. هنا تتزايد التخوّفات من أن ينهار الوضع إلى حدّ يصبح فيه العقار مقابل الطعام”.
إقرأ أيضاً: 2.3 مليار $ بيع عقارات في 3 أشهر: السعر أعلى بالشيك وأقلّ بـ”فريش ماني”
ويضيف: “أما المغتربون، ففقدوا الثقة بالنظام اللبناني بعدما سرقتهم المصارف. ومن يعوّل على مساعداتهم، عليه أن يعي أنّ أوضاعهم المالية والمعيشية ما عادت كما كانت في الأيام الذهبية، بعد تدهور سعر النفط، وما خلّفته جائحة كورونا. فقد تكبّد المغتربون خسائر جمّة، وفقد العديد منهم وظائفهم، خصوصاً المقيمين في أفريقيا والخليج، من حيث كانت تأتي غالبية التحويلات التي أنعشت الاقتصاد على مدى أعوام. ولا أفق للأزمة المصرفية، وذلك يعني باختصار أن لا دورة اقتصادية، ولا وظائف، أي لا قروض ولا استثمارات في العقارات، بما أنّ المصارف باتت هياكل عظمية فارغة…”.
في النظام المصرفي، تقبع أموال وهمية. هي التي أسهمت خلال الأشهر القليلة الماضية بعودة الطلب على السوق العقارية، فكان لها دور في عودة ارتفاع الأسعار. وهي أيضاً التي ستؤدّي في نهاية المطاف إلى فقاعة عقارية غير مسبوقة… كما يتوقّع الخبراء.