شكّل استهداف القاعدة الأميركية في النقطة المتقدّمة على الحدود الأردنية السورية، البرج 22، وما أدّى إليه من سقوط 3 قتلى وأكثر من 40 جريحاً في صفوف القوات الأميركية، تحوّلاً نوعيّاً في حالة التصعيد المنضبط الذي مارسته الفصائل العراقية الموالية لإيران في عملياتها ضدّ القوات الأميركية المنتشرة على طول طرفَي الشريط الحدودي بين العراق وسوريا والتي بلغت حسب تصريحات وزارة الدفاع الأميركية البنتاغون أكثر من 165 عملية.
رسمت مبادرة واشنطن إلى الاعتراف بحجم الخسائر التي سقطت في صفوف قواتها صورةً واضحة عن الحرج الذي وقعت فيه الإدارة الأميركية، وبالتالي عدم قدرتها على السكوت، واضطرارها إلى اللجوء إلى ردّ فعل متناسب مع حجم الاستهداف والخسائر.
الإعلان الأميركي عن استهداف قواعد تابعة لحرس الثورة الإسلامية الإيراني، وتحديداً الفصائل المتحالفة معها (الرديفة)، ومنها قوات “زينبيون” (باكستانيون) وقوات “فاطميون” (أفغان) داخل الأراضي السورية، إلى جانب استهداف قواعد تابعة لقوات الحشد الشعبي العراقي، يحمل رسالة مزدوجة من المفترض أن تقرأها طهران بإمعان ودقّة أكثر من كلّ مرّة.
أبعاد الرسالة العسكريّة.. سياسيّاً
البعد الأوّل لهذه الرسالة، عبّر عنه الإعلان الأميركي باستهداف قواعد للحرس على الأراضي السورية، أي أنّ هذه العمليات، والردّ استطراداً، تصبّ في سياق استكمال عمليات الاستهداف التي طالت قوّة القدس العاملة في هذين البلدين، والتي استطاعت إخراج أبرز قيادات هذه القوّة من المشهد الأمنيّ والعسكري، بدءاً من الجنرال رضى الموسوي، ولن تقف عند المستشار “علي دادي” الذي أُعلن عن استهدافه قبل أيام، مروراً بالمسؤول الأمنيّ لهذه القوة في سوريا والعراق “الحاج صادق أميدوار” ومساعده، مع إمكانية استكمالها لتطال مستشارين آخرين تصنّفهم تل أبيب وواشنطن “مصادر خطر”.
يبدو أنّ طرفَي التصعيد، أي الأميركي والإيراني، غير معنيَّين بأخذ الأمور إلى طريق مسدود والمواجهة المفتوحة
على الرغم من عدم توجيه إيران اتّهاماً مباشراً لواشنطن بالوقوف وراء هذه الاستهدافات لقوة القدس، إلا أنّ هناك رسائل إيرانية وصلت إلى الإدارة الأميركية تتّهم واشنطن بتنسيق متقدّم بينها وبين تل أبيب في العمليات الأخيرة التي نفّذتها إسرائيل في دمشق وألحقت خسائر قاسية في تركيبة قيادة قوة القدس في سوريا، أي أنّها جرت بأيدٍ إسرائيلية ومعلومات أميركية. وبالتالي فإنّ السكوت الإيراني عن تصعيد الموقف باستهداف قاعدة البرج 22 في الأراضي الأردنية، يصبّ في إطار الردّ الإيراني على ما شهدته العاصمة السورية وما لحق بقوة القدس والوجود الاستشاري الإيراني في سوريا.
أمّا البعد الثاني في العملية الأميركية فيرتبط بجغرافية المنطقة التي تمّ استهدافها، وما تشكّله من أهمّية عسكرية واستراتيجية، باعتبارها منطقة عمليات تُستخدم في استهداف القواعد الأميركية على طرفَي الحدود، فضلاً عن كونها تشكّل النقطة الأقرب جغرافيّاً من فلسطين من الناحية العراقية، وبالتالي تتطلّب أنواعاً من الصواريخ أقلّ تطوّراً ومديات متوسطة للوصول إلى العمق الإسرائيلي، خاصة أنّه سبق أن استخدمتها هذه الفصائل لإرسال مسيّرات وصواريخ نحو مدينة حيفا وميناء إيلات، حسب ما أعلنته أكثر من مرّة.
يبدو أنّ طرفَي التصعيد، أي الأميركي والإيراني، غير معنيَّين بأخذ الأمور إلى طريق مسدود والمواجهة المفتوحة، أوّلاً لأنّها ستكون من دون مردود استراتيجي، وثانياً لأنّها لن تسهم في إدخال تعديل جوهري في المعادلة العسكرية والأمنيّة المرافقة لمعركة قطاع غزة بين المقاومة الفلسطينية والجيش الإسرائيلي، بل ستتحوّل إلى ساحة استنزاف غير مجدٍ، في حين أنّ المعركة الرئيسة التي يسعى الجانب الأميركي إلى الحصول على تفاهمات من أجل الحدّ من تطوّرها أو تصاعدها، تقع في مكان آخر، وتحديداً عند باب المندب والبحر الأحمر، وأيضاً على الجبهة الشمالية لإسرائيل، في الجليل الفلسطيني، أي معركة المشاغلة التي يقوم بها الحزب جنوب لبنان، الأمر الذي يجعل من الساحتين العراقية والسورية مسرحاً لتوجيه الرسائل وتبادلها بين الطرفين.
إيران حريصة على “الانسحاب الأميركيّ” من العراق
يقف الإسرائيلي على العكس من هذا المسار، خاصة على الساحة السورية، إذ ينظر إلى حتمية الوصول إلى اتفاق أو تفاهم على وقف لإطلاق النار في غزة، لكنّ عدم التوصّل إلى تفاهم على مساحة نفوذ إيران وحلفائها في سوريا يعقّد المشهد عليه ويعمّق أزمته، ويترك مسألة أمنه واستقراره ومصادر التهديد من هذه الجبهة مفتوحة على جميع الاحتمالات.
المسارعة الإيرانية على لسان وزارة الخارجية إلى نفي أيّ استهداف أميركي لقواعد تابعة لحرس الثورة أو قوة القدس على الأراضي السورية، والعودة إلى سياسة التحذير من تداعيات هذه الضربات وما يمكن أن تؤدّي إليه من توسيع لدائرة الصراع في الإقليم، تشكّلان رسالة للإدارة الأميركية بعدم التمادي في الضربات والاكتفاء بما تمّ تنفيذه حتى الآن، والعودة إلى قواعد الاشتباك التي كانت قائمة بينهما في الأشهر الأخيرة.
الموقف الإيراني الساعي إلى استيعاب هذا المتغيّر والحرص على عدم تطوّره يأتيان من المخاوف الإيرانية من أن يطيح هذا التصعيد بالمسار التفاوضي بين الإدارة الأميركية والحكومة العراقية حول آليّات الانسحاب الأميركي من العراق في حال تحوّل العراق إلى ساحة مواجهة بين الطرفين والدخول في الردّ والردّ المقابل.
استمرار التصعيد المضبوط
تذهب التقديرات لدى المعنيّين بالوضع العسكري لدى الجانب الإيراني، إلى أنّ طهران باستطاعتها اللجوء إلى تطبيق سياسة “إعادة الانتشار” أو “إعادة التموضع” لعناصرها من المستشارين على الأراضي السورية، أو التقليل من عديدهم بالتزامن مع إجراءات أمنيّة مختلفة للتخفيف أو الحدّ من استهدافهم، والتركيز على رفع مستوى فعّالية القوى الرديفة في عمليات الاستهداف والردّ على العمليات الأميركية. في حين أنّ القوات الأميركية تفتقر إلى قوات رديفة على استعداد للقيام بعمليات عسكرية نيابة عنها، وبالتالي ستكون مجبرة على الدخول مباشرة والردّ على أيّ استهداف قد تتعرّض له، الأمر الذي يضع الجنود والقوات الأميركية في دائرة الخطر في أيّ تصعيد مفتوح مع إيران وحلفائها.
إقرأ أيضاً: إيران: روحاني المنحرف أو الخطير؟
تتوقّع هذه الأوساط أن تستمرّ طهران بتطبيق استراتيجية التصعيد المضبوط والمسيطر عليه، وقد ظهر ذلك من خلال استمرار عمليات الاستهداف التي تقوم بها فصائل “المقاومة الإسلامية” العراقية ضدّ القواعد الأميركية. وفي حال لجأت واشنطن إلى توسيع دائرة الردود نحو الداخل العراقي ومراكز هذه الفصائل، قد تذهب هذه الفصائل إلى توسيع ردودها وعمليّاتها مستغلّة حراجة الموقف الداخلي للإدارة الأميركية عشيّة الانتخابات الرئاسية المرتقبة.