لا يمكن فصل شخصية زعيم تيار المردة سليمان فرنجية عن المجزرة. لا يمكن لأيٍّ كان في مكانه، ان يشكّل وعيه وشخصيته ومبادئه بعيداً عن تأثيرات مجزرة كالتي أودت بحياة أبيه السياسي طوني فرنجية ووالدته واخته الطفلة الصغيرة في إهدن. الصبي الذي شاء له الحظ ان يكون في المدرسة في بيروت أثناء وقوع المجزرة، نجا من الموت، وكتب له أن يرث زعامة كان جدّه وسميّه سليمان مدماكاً لها، مع ترؤسه الجمهورية اللبنانية بين عاميّ 1970 و1976. ومع كلّ ما كابده الرجل من ثقل الإرث وتحدّي تجاوز الحقد، استطاع أن ينجو من آثار المجزرة على شخصيته، ومن أثر الحرب مع ما تحمله من انفعالات وتهوّر وانتقام. وهذا ما صقل فيما بعد شخصيته السياسية، التي تتسم في معظم الأحيان بصراحة فجّة، لا ينجو هو نفسه من وقعها.
إقرأ أيضاً: فرنجية “فجّر” معركة الرئاسة: أنا الرئيس المقبل وباسيل ما بيعمل مختار
فالرجل قد يقول ما لا يقال، وقد يحرج في ما يقوله كثيرين حوله ومعه، وأحياناً قد يحرج نفسه. ومع ذلك، لا يني يكرّر الأمر دائماً بلا تردّد. كما لو أنه يطلق النار على طريدته وهي تنظر مباشرة في عينيه. ولا يقتلها وهي تهرب مدبرة. شيء من الشفاء من المجزرة على الغالب يجده سليمان فرنجية في الصيد. يفرغ ربما هناك، في المسافة الفاصلة بين زناد بندقيته والطريدة، كلّ تراكمات الماضي. والرجل، أعجبك أم لم يعجبك، استطاع كجزء من المنظومة السياسية، أن يأخذ مكانته بدعم من علاقته المتينة في فترة التسعينات بنظام حافظ الأسد صديق جدّه سليمان، وأسّس لصداقة متينة شبيهة بالرئيس السوري بشار الأسد، كانت دعامة أساسية له في حضوره السياسي داخل الحكومات منذ العام 2000، ومع تبدّل الظروف ووقوع المحظور في العام 2005 مع اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، لم يتبدّل ثبات فرنجية في موقعه السياسي، وكان يومها وزير داخلية لبنان ومسؤولاً عن الأجهزة الأمنية التي لاحقتها المحكمة الدولية وسجنت رؤساءها. لم يتراجع الرجل عن تحالفاته ولا عن صداقته ببشار الأسد في عزّ الأيام السود التي مرّ بها النظام وحلفاؤه بها، بعيد اغتيال الحريري. ولم يتغير رهانه على النظام ولا على حلفائه في 8 آذار في لبنان، حتى مع اندلاع الثورة السورية وتبدّل الأحوال، وخروج رهانات كثيرة تقول بقرب نهاية النظام السوري وبالتالي انهيار حلفائه في لبنان. كلّ هذا لم يدفع فرنجية إلى التراجع عن قناعاته ولا عن صداقاته. يصادق الطاغية، نعم، ويقول ذلك علناً، بلا أيّ تردّد وبلا أيّ حرج.
مع اغتيال الحريري بدأ المسار السياسي لفرنجية يتخذ منحى أكثر نضجاً، وتبيّن أن الصياد يعرف تماماً طبيعة الغابة، ويعرف متى يجب أن يتخفّى ومتى يجب أن يظهر
قد يبدو هذا الأمر اشبه بعناد، وقد يسجّل نقّاد فرنجية هذه السمة فيه كثغرة في شخصيته. نقطة ضعف. لكنه بقي حتى مؤتمره الصحافي الأخير موغلاً في هذا العناد، غير آبه بكثير من الاعتبارات التي يراعيها عادة كلّ من يعمل في السياسة، خصوصاً مرشحي رئاسة الجمهورية، ويقدّم المصالح والبراغماتية على ما عداها. وقد يقال إن ليس لديه ما يخسره، فقد انتزع منه العونيون رئاسة الجمهورية، لكن العارف بالسياسة اللبنانية، يعلم أن سليمان فرنجية لا يزال مرشحاً، ولا يزال في عمر يسمح له بالطموح والعمل على تحقيقه. وهو قد قدّم تنازلات بالفعل، لكنها لا تمسّ جوهر عناده السياسي وتمسّكه بموقعه الطائفي، حينما التقى بسعد الحريري وسمّاه الأخير لرئاسة الجمهورية، وفعل الأمر نفسه بلقاء سمير جعجع لتخطّي المجزرة ووقعها إلى الأبد، ومع ذلك بقي صديقاً للأسد وحليفاً لصيقاً بـ”حزب الله”. يفعل ذلك، وأكثر. لكنه حينما يُسأل عن رأيه، تحت أيّ ظرف، يجيب. يجيب من دون مواربة، ويصيب. تماماً كما في هواية الصيد التي يمارسها خارج لبنان، قد يختار فرنجية طرائده سلفاً، وقد تفرض الطريدة نفسها عليه. لكنه في كلا الحالتين، يطلق النار من دون تردّد. ويعرف أنه إذا أخطأ هدفه، قد يكلّفه الأمر في بعض الأحيان حياته (في الصيد) ومستقبله السياسي (في السياسة). ومع ذلك لا مجال للتردّد. هي طلقة واحدة، إما ان تصيب وإما أن تخيب. لا يحب فرنجية الضرب في الرمل، ولا يحبّ التنقيب في البحر(عن النفط وسواه). لا يحب صيد السمك المستند إلى الطعم والشباك. هو صياد برّي. يحب أن يرى الهدف واضحاً أمامه، وأن ينظر تماماً في عينيه ويصوّب. يطلق النار، عالماً أنه حينما تنطلق الرصاصة لا مجال للتراجع. لا مجال لإيقافها في منتصف الطريق. ولا مجال لحرف مسارها. وهذا ما يعلمه الأقربون والأبعدون عن الرجل، ولذلك لا حلّ معه، في حال ضغط على الزناد، إلا ان يتبرّع احد لتلقي الرصاصة بدلاً من الهدف، إذا كان الهدف مهماً جداً للحلفاء (كما هو الحال مع العونيين). “حزب الله” يفعلها في مرات كثيرة. والحزب وسيده (نور العين كما سماه فرنجية) إذ يمونون على فرنجية، لثنيه عن الذهاب إلى الصيد، لا يستطيعون شيئاً حينما يتخذ وضعية التصويب، إلا أن يصرخوا بالطريدة لكي تهرب، أو يحاولون تلقي الرصاصة بصدورهم عنها.
دخل الصياد إلى غابة السياسة والطائفية شاباً مراهقاً، وكان أصغر النواب المعيّنين في المجلس النيابي. ثم مستخدماً نفوذه مع النظام السوري حين تولّى اكثر من حقيبة وزارة وصولاً إلى وزارة الداخلية في حكومة الرئيس عمر كرامي. ومع اغتيال الحريري بدأ المسار السياسي لفرنجية يتخذ منحى أكثر نضجاً، وتبيّن أن الصياد يعرف تماماً طبيعة الغابة، ويعرف متى يجب أن يتخفّى ومتى يجب أن يظهر. راكم فرنجية رصيداً كبيراً وخبرة واسعة ومرافقين، وخرطوشاً كثيراً لمستقبله السياسي في الغابة. صار لديه كتلة نيابية، وهيّأ ابنه وعلّمه الرماية كما لو ان الغابة العامة قطعة أرض خاصة يتوارثها الإقطاع، وأطلعه على أنواع الطرائد والمخاطر. لكنه مع ذلك، حينما يستشعر خطر حيوان مفترس على امتيازاته، أو صياد آخر يزاحم جماعته على طرائدها، يعود إلى بندقيته، وإلى موقعه في الغابة. يلقّم البندقية. يضع عينه في الناظور. ويصوّب. وقلّما يتراجع عن الضغط على الزناد.