قد تكون العلاقات بين أقوى دول الشرق الأوسط، بما في ذلك السعودية ومصر وتركيا وإيران، أكثر انسجاماً وتقارباً اليوم مقارنة بالسنوات الماضية، وهو ما جعل المنطقة أكثر سلاماً، غير أنّ الجروح القديمة لم تندمل بعد، ولذا يحذّر مركز ستراتفور (Stratfor) الأميركي للجغرافيا السياسية التطبيقية من مخاطر كثيرة قد تقوّض تلك المصالحات وحالة المواءمة الحالية، وذلك رهناً بديناميّات الصراعات والظروف الاقتصادية المحليّة والإقليمية والعالمية.
أرجع مركز ستراتفور، الذي من مهامّه رصد تأثيرات التغيّرات التكنولوجية والبيئية والديمغرافية على العلاقات الجيوسياسية واستكشاف المخاطر المحتملة، “تحسّن العلاقات الدبلوماسية بين الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والعالم العربي إلى عدّة عوامل رئيسة، أهمّها:
1- تنامي الشعور بعدم اليقين بين شركاء الولايات المتحدة بشأن الاتجاه الاستراتيجي لواشنطن والطاقة السياسية والموارد العسكرية. وتتساءل القوى الإقليمية مثل السعودية ومصر وتركيا وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة: كيف يمكن للولايات المتحدة أن تستغلّ علاقاتها الأمنيّة والسياسية في المنطقة لمواجهة نفوذ الصين وروسيا؟ وتخشى أن تتعرّض لضغوط لقطع علاقاتها مع موسكو وبكين، مقابل دعمها الاقتصادي والسياسي والماليّ. ولا تعرف كيف سيؤثّر تركيز الولايات المتحدة المتزايد على الصين وروسيا على النفوذ العسكري الأميركي في المنطقة، الذي تراجع في السنوات الأخيرة.
2 – الحاجة إلى خلق فرص للاستثمار والتجارة في هذه الفترة من عدم اليقين الاقتصادي العالمي. وقد بدأ عدد متزايد من دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يدرك أهمية العمل معاً لإيجاد حلول جماعية تخفّف من الآثار السلبية على اقتصاداتها وتعزّز قدرتها العامّة على الصمود في مواجهة التحدّيات العالمية المتصاعدة. وقد دفع هذا بعض البلدان إلى تنحية المنافسات السياسية التي أضرّت أو أعاقت اقتصاداتها جانباً، على أمل إطلاق المجال لفرص تجارية جديدة وجذب المزيد من الاستثمار الأجنبي. وساعدت الفوائد المحتملة للاستثمار والتجارة الإسرائيليَّين في دفع الدول العربية إلى تطبيع علاقاتها مع إسرائيل بموجب اتفاقيات أبراهام.
قامت المملكة العربية السعودية بتطبيع علاقاتها مع إيران في آذار 2023 لسبب أساسي هو تهدئة مخاوفها بشأن تعثّر المحادثات النووية بين الولايات المتحدة وإيران الذي تركها معرّضة لهجمات إيرانية
3- أولويّات الأمن القومي المتوائمة ساعدت أيضاً في التقريب بين الخصوم الإقليميين السابقين. في حالة مصر وتركيا، تلاشى خوف الأولى من أنّ الأخيرة ستثير الفتنة في مصر من خلال دعم جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من الجماعات الإسلامية السياسية فأعادت تركيا ومصر تبادل السفراء بعد انقطاع 10 سنوات، وهو ما يمثّل خطوة مهمّة نحو التطبيع. بالإضافة إلى ذلك، لدى السعودية وإيران مصلحة أمنيّة وطنية مشتركة في تعزيز الاتصالات لتهدئة حدّة النزاعات المحتملة. وفي الوقت نفسه، ساعد التهديد النووي الإيراني المتزايد في تقريب الدول الغربية من المنطقة من خلال تحفيز بعض الدول العربية على تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ولا سيما في ظلّ عدم إحراز تقدّم كبير في المحادثات النووية بين الولايات المتحدة وإيران.
لكن وفقاً للموقع ما تزال دوافع العديد من المنافسات العميقة الجذور قائمة، وهذا يعني أنّ حالة المواءمة الحالية ستتقلّب وفقاً لديناميات الصراعات المحلية والإقليمية والظروف الاقتصادية الوطنية والعالمية. وعرض الموقع للمخاطر المحتملة لكلّ علاقة على حدة:
– التطبيع مع إسرائيل: يسعى العديد من دول الخليج العربية (والمغرب) الى تطبيع العلاقات مع إسرائيل بسبب الوعد بالاستثمار الاقتصادي، والقلق المشترك من التهديدات الإيرانية، وضمانات المعدّات العسكرية والتعاون التجاري من جانب الولايات المتحدة، وتراجع أهمية قضية الدولة الفلسطينية بين الشباب العربي. ومن المرجّح أن تحافظ الدول العربية التي تسعى إلى التطبيع بحذر، على مسارها، خاصة إذا زاد خطر نشوب صراع مع إيران. سيساعد هذا البناء التدريجي لعلاقات طويلة الأمد بين العرب والإسرائيليين على الحدّ من خطر نشوب صراع بين إسرائيل والدول الأخرى التي ما تزال غير مهتمّة بالتطبيع.
غير أنّ من المخاطر المحتملة التي قد تعكس أو تبطئ الاتجاه نحو التطبيع: التصعيد العسكري الإسرائيلي ضدّ الفلسطينيين أو التصعيد العسكري الفلسطيني ضدّ الإسرائيليين، وكلاهما ممكن في المناخ الحالي. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الانهيار الخطير في العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل من شأنه أن يبطئ التقارب الإقليمي، لأنّ الولايات المتحدة لن تقدّم بعد الآن ضمانات أمنيّة للبلدان العربية مقابل تطبيع علاقاتها.
– العلاقات مع سوريا: يتأقلم العالم العربي الأوسع مع حقيقة أنّ حكومة الرئيس السوري بشار الأسد موجودة لتبقى. بالنسبة للأسد، الذي لم تعد حكومته منبوذة من العالم العربي، فإنّ الفوائد السياسية للتطبيع واضحة، على الرغم من تردّد بقيّة المنطقة في تكثيف التعاون الاقتصادي بسبب استمرار العقوبات.
تشمل التغييرات التي من شأنها عكس هذا الاتجاه نحو التطبيع: الزيادة السريعة في الصادرات السورية من عقار الأمفيتامين فينيثيلين (كبتاغون)، وهو ما قد يفسد النوايا الحسنة الناشئة للعديد من الدول العربية تجاه الحكومة السورية. وقد يؤدّي التكثيف الدراماتيكي للحملات العسكرية للحكومة السورية ضدّ الجماعات المتمرّدة إلى إبطاء وتيرة التطبيع من خلال تهديد أمن الدول المجاورة الأخرى وزيادة مخاطر السمعة على الدول التي تزيد بسرعة من صلاتها بسوريا.
قد تكون العلاقات بين أقوى دول الشرق الأوسط، بما في ذلك السعودية ومصر وتركيا وإيران، أكثر انسجاماً وتقارباً اليوم مقارنة بالسنوات الماضية، وهو ما جعل المنطقة أكثر سلاماً
– العلاقات بين السعوديّة وإيران: قامت المملكة العربية السعودية بتطبيع علاقاتها مع إيران في آذار 2023 لسبب أساسي هو تهدئة مخاوفها بشأن تعثّر المحادثات النووية بين الولايات المتحدة وإيران الذي تركها معرّضة لهجمات إيرانية. وتحذو دول الخليج العربية الأخرى حذوها في اختبار فوائد إعادة العلاقات مع إيران. يخفّف هذا التقارب الإقليمي المتزايد من مخاطر نشوب صراع مباشر عبر الخليج العربي، ومن الهجمات الإلكترونية الضارّة من إيران أو ضدّها.
غير أنّ من المخاطر التي قد تعكس هذا الاتجاه: اندلاع العنف في أحد المسارح بالوكالة حيث للمملكة وإيران مصالح متباينة، بما في ذلك اليمن ولبنان والعراق. ومن شأن التقدّم الدراماتيكي في القدرات النووية الإيرانية أن يقوّض ثقة السعودية بأنّ أمنها مضمون من خلال التقارب، وهو ما قد يدفع الرياض إلى تعزيز علاقاتها مع الولايات المتحدة على حساب إيران. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ هجوماً إلكترونياً إيرانياً على السعودية أو حليف لها من شأنه أن يقوّض هذا التقارب.
– العلاقات التركيّة العربيّة: في أعقاب الربيع العربي في أوائل عام 2010، أتاح انهيار الحكومات الاستبدادية في دول مثل مصر وتونس فرصة لتركيا لتوسيع سلطتها السياسية في المنطقة من خلال دعم الجماعات الإسلامية. وساعدت القنوات الإعلامية المموّلة من تركيا في نشر رسالة هذه المجموعات على مستوى المنطقة، فتوتّرت علاقات أنقرة مع بعض أقوى الدول في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بما في ذلك السعودية والإمارات ومصر. لكن بعد الأزمة المالية في عام 2019، بدأت تركيا بطرد الشخصيات والقنوات الإعلامية الإسلامية لإرضاء هذه الدول الغنيّة، على أمل تأمين الاستثمارات الأجنبية اللازمة وضخّ السيولة. تحسّنت العلاقات وقلّت المخاوف من قيام تركيا بنشر الإسلام السياسي في جميع أنحاء المنطقة.
إقرأ أيضاً: نظام جديد في الشرق الأوسط؟
غير أنّ المخاطر التي قد تعكس هذا الاتجاه تشمل عودة تركيا إلى دعم الإسلام السياسي و/أو الإعلام الإسلامي في المنطقة، ربّما كجزء من محاولة الرئيس رجب طيب إردوغان كسب دعم مؤيّديه الأكثر تحفّظاً.
*موقع مركز ستراتفور (Stratfor) للجغرافيا السياسية التطبيقية تابع لشبكة RANE الأميركية الاستشارية لإدارة المخاطر التي، بحسب تعريف صفحتها، تعمل على ربط قادة الأعمال بالرؤى والخبرة المهمّة واستكشاف تحدّيات المخاطر الأكثر إلحاحاً ومساعدتهم في الحصول على المعلومات التي يحتاجون إليها لمواجهتها.
لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا