هيمنت شتيمة رئيس “التيار الوطني الحرّ” جبران باسيل على مشهد الثورة في موجتها الأولى. باتت الأغنية المخصّصة لشتمه بمثابة نشيد الثورة، والنكتة الأكثر رواجاً على مواقع التواصل الاجتماعي.
أمس اتّخذت الشتيمة منحىً مختلفاً تماماً، مع شتم السيدة عائشة، زوجة نبي المسلمين محمد، ما كاد يؤدي إلى اقتتال سني شيعي سوريالي.
لأسباب كثيرة باتت الشتيمة أكثر حضوراً في الخطاب السياسي، في لبنان كما في كلّ أنحاء العالم. يستعملها الرؤساء في حملاتهم السياسية والانتخابية، ويتبادلها الحزبيون والسياسيون عبر وسائل الإعلام التقليدية والحديثة وداخل قاعات البرلمانات أو مقارّ الحكومة. الرئيس المكسيسكي السابق، فيسينتي فوكس، سجّل شريطاً قصيراً وجّهه لدونالد ترامب، قال فيه: “We’re not paying for the fucking wall”، أي “لن نموّل بناء الجدار اللعين بين الدولتين”، والذي جعل منه ترامب مادة تسويق انتخابية خلال حملته المعادية للهجرة غير الشرعية، لا سيما من المكسيك. سريعاً صارت جملة الرئيس فوكس عنواناً للنضال الوطني المكسيكي ضدّ ما يراه البعض “فوقية” أميركية.
وعندما سألته عن الشتيمة خلال لقاء في دبي، قال لي: “لقد كنتُ صادقاً”.
إقرأ أيضاً: جنّة اليساريين منازلهم
للشتيمة قدرة هائلة بالفعل على نقل المشاعر والمواقف مباشرة ومن دون توريات. تفاقم من قدرة مطلقها وألم متلقّيها. وحين يستخدمها السياسيون في عصر السوشال ميديا، فهم يبدون أكثر قرباً من الناس وأكثر صدقاً في التعبير عن رغبات الناخبين ومواقفهم ومشاعرهم. أما حين يطلقها المتظاهر في وجه السياسي الفاسد، فهو يعلن عن تمرّد عميق على توازن القوى بين الاثنين. فإذا كان الفساد ممارسة خارج القانون، فقد باتت الشتيمة التي تخالف القانون العام أيضاً أداةً للمساواة مع السياسي، ووقوفاً معه خارج دائرة القانون، بحيث إما يبقى الاثنان خارجها أو يعود الاثنان الى كنفها وكنف قواعدها.
والشتيمة سلوك عصبي له وظيفة نفسية في زيادة القدرة على تحمل الألم أو التعامل معه. يشتم من يهوي بالمطرقة خطأً على إصبعه، أو يضرب قدمه خطأً بقطعة أثاث أو حافة باب. يشتم المرء في السياسة لإنزال الألم بخصومه، ويشتم باليومي لتحمل ألم ما أصابه فجأة..
لا ضير في الشتيمة اذاً، وهي جزء من السلوك البشري الأقدم بأكثر مما قد يخطر للقارئ، حتى إن بعضها وُجد محفوراً على أعمدة رومانية!!
بكلّ هذه المعاني كانت شتيمة جبران باسيل طبيعية وجزءاً من سياق طبيعي للثورة. وسرعان ما باتت شتيمته تتجاوز شخصه إلى ما ينوب عنه هو من سياسة ومن طبقة سياسية.
وبكلّ هذه المعاني جاءت شتيمة السيدة عائشة خارج أيّ سياق طبيعي ومنطقي حتّى لمنطق الشتيمة في السياسة المعاصرة.
لنترك جانباً الفارق في المقامات بين سياسي معاصر وزوجة نبي المسلمين، وما يحفّ بموقع “أم المؤمنين” من غلالات قداسة.
من شتم السيدة عائشة “ذاهل” بالكامل عن أنّه ينزل الأذى بفتية مثله، لا يملكون، كما لا يملك، أيّ شرط من شروط المستقبل المقبول
الاشتباك مع باسيل وما يمثّل، هو تجربة معاشة واشتباك راهن مع سياسي موجود بين من يشتمونه، ومع سياسات تمسّ معاشهم وحياتهم ومصالحهم الآنية. وهذا من مواصفات الشتيمة في الخطاب السياسي المعاصر.
أما أن يشتم فتيةٌ، زوجةَ الرسول، من دون أيّ صلة سياسية للتراث الإسلامي بالاشتباك السياسي الحاصل، فهذا ذروة السوريالية، ومستوىً غير مسبوق من القبلية السياسية حتّى في أعتى نماذج سياسات الهوية التي تزدهر مؤخراً في كلّ أصقاع العالم…
هو تعبير جنوني عن رغبة عمياء بإنزال الأذى والمهانة بثقافة وهوية مجموعة مقابلة، كلّ ذنبها أنّها عبّرت الآن هنا، عن حقّها بشروط سياسية لحياة أفضل.
من شتم السيدة عائشة، لا يستعدي التاريخ في اشتباكه الآن مع خصومه، بل هو يعيش في التاريخ الذي استدعاه. وهذا العيش في التاريخ هو ما يفسّر ذهوله عن شروط الحاضر المزرية للآخرين وله، ما لم يكن له قبل الآخرين. العيش في ظلال ما يعتبره الشاتم مهانةً تاريخية خالصة، لا يعرف عن تفاصيلها سوى بعض من التاريخ الشفهي المتداول، مقروناً بقوّة معاصرة، ينتج أبشع أنواع التسلّط والعنف والاستنفار، الذي شهده اللبنانيون في الأيام القليلة الماضية…
من شتم السيدة عائشة “ذاهل” بالكامل عن أنّه ينزل الأذى بفتية مثله، لا يملكون، كما لا يملك، أيّ شرط من شروط المستقبل المقبول. الفارق بينه وبينهم أنّه يعيش في ظلال التاريخ الشفهي الفئوي لسيرة السيدة عائشة فيما يعيشون هم الآن هنا في ظلال دولار يتهيّأ للقفز نحو سقوف جديدة. يعيش هو في ماضٍ لا علاقة له بتفاصيله فيما يعيشون هم في حاضر ومستقبل يعرفون عنه كل ما يدعو للخوف والقلق واليأس.