لا يقرأ الغاضبون في السويداء المواقف الدولية والتحوّلات الإقليمية والمناورات العسكرية المتعلّقة ببلدهم. ولا يحسبون في حراكهم الراهن أيّ حساب لأجندات خارجية قد تلاقي أو تناقض صراخهم في الساحات التي خرجوا إليها. ولئن تُلاقِ درعا جنوباً ومناطقُ الشمال انتفاضةَ “أهل الجبل”، فإنّ في ذلك ما يعيد تسليط المجهر على هويّة سوريّة تقطّعت جغرافيّتها وتباعدت انشغالاتها، لكنّها ما زالت قادرة على الوصل والتلاقي.
يأتي الحدث مواكباً لظواهر اعتراض لافتة جريئة، وإن ما تزال تتّخذ طابعاً فردياً، في منطقة الساحل ومن داخل البيئة العلويّة المفترض أنّها حاضنة النظام الأولى. صحيح أنّ من المبكر ومن المستبعد الحديث عن موجة جديدة من الاحتجاجات التي انطلقت من درعا في 18 آذار من عام 2011، غير أنّ الحراك يقدّم مشهداً مزعجاً خادشاً للنسخة التي استكان إليها النظام في التنظير لـ”المجتمع المنسجم” الذي يصبو إليه من أجل مستقبل سوريا.
لا أوهام لدى المنتفضين في السويداء بأنّ حراكهم وحده سيحقّق الآمال التي حملتها شعاراتهم. فإسقاط النظام وترحيل الرئيس وغير ذلك مطالب جرى استنفادها خلال 12 عاماً، ولا أعراض توحي بتوفّر شروط جديدة أو مستجدّة تتيح إنجاز تحوّلات سورية
خليط “المطلبي” و”السياسي”
بغضّ النظر عن اختلاط الشعارات المطلبية لمحتجّي السويداء بتلك السياسية ذات اللهجة التي تطال النظام وزعيمه، فإنّ الحدث بحدّ ذاته يعيد التأكيد أنّ الخلل داخلي تجب معالجته، وأنّ “الصوت السوري” الذي كاد أن يغيب تماماً ويقبل السوريون، موالين ومعارضين، بقدريّة غيابه، يعود ليصدح من جديد في السويداء ودرعا وإدلب وغيرها، لعلّه يعود يوماً ليكون رقماً داخل الغرف التي تقرّر مصير ومسار البلد إن لم يكن الرقم الوحيد، الأوّل والأخير.
لئن لم يعترف الرئيس السوري في مقابلة أُجريت معه في 9 آب الجاري بوجود أزمة نظام أو حتى وجود أزمة داخلية في سوريا ملصقاً مآسي البلد بالخارج والإرهاب والمؤامرات الإقليمية الدولية، فإنّ حدث السويداء ووهجه يعيدان الكرة إلى ملعب هذا النظام وهذا الداخل. وإذا ما حسم الأسد أنّه لن يتعامل إلا مع معارضة “مصنّعة” محلّياً تمتلك “قاعدة شعبية، وبرنامجاً وطنياً، ووعياً وطنياً”، فإنّ الحراك ينطلق من داخل حاضنة شعبية وبيئة داعمة وتمّت مباركته من الزعامات المدنية والروحية (لا سيّما “مشيخة العقل” المرجعية الروحية للموحّدين الدروز)، وهو في شكله ومضمونه وشخوصه وشعاراته ومطالبه داخليّ بيتيّ “صُنع في سوريا”.
لا أوهام لدى المنتفضين في السويداء بأنّ حراكهم وحده سيحقّق الآمال التي حملتها شعاراتهم. فإسقاط النظام وترحيل الرئيس وغير ذلك مطالب جرى استنفادها خلال 12 عاماً، ولا أعراض توحي بتوفّر شروط جديدة أو مستجدّة تتيح إنجاز تحوّلات سورية. ما يزال مشهد سوريا يُرسَم من الخارج، سواء في انتشار “جيوش العالم” فوق أراضي البلد، أم في تطوّرات الأشهر الأخيرة التي أعادت سوريا إلى مقعدها داخل جامعة الدول العربية ووفّرت لرئيسها حضور القمّة العربية في 23 أيار الماضي في جدّة، أم في حالات تطبيع علاقات دمشق مع بعض الدول العربية. ومع ذلك قد لا تلاقي تعقُّد أجندات هذا الخارج أهلَ السويداء، وإن كانت العواصم تستمع إلى هتافاتهم بتأمّل وإصغاء واهتمام.
دمشق ليست قلقة.. وإيران؟
قد لا يشعر نظام دمشق بقلق كبير ممّا يجري في ساحات السويداء. في البال أنّ المنطقة سبق أن أظهرت حراكاً وتمرّداً عام 2018، فظهر تنظيم داعش في تموز من العام نفسه يوقع في هجماته أكثر من 200 قتيل. لن يعدم النظام الوسائل للتعامل مع “الملفّ” واستخدام ما تيسّر من عدّة الشغل لاستيعاب الحدث أو حتى التعايش معه وجعل الوقت يتولّى إخماده.
تغيب لغة الأغلبية والأقلّية، وتتراجع على نحو مذهل الحساسيّات المذهبية في ما يصدر عن “الجبل” و”الساحل” وحوران وغيرها. في حراك اليوم ما يعيد أملاً سوريّاً بنهوض طائر الفينيق من الرماد
في البال أنّ النظام الحليف في إيران تعامل وتعايش مع تظاهرات وتحرّكات أوسع في حجمها وفي جغرافيّتها وشموليّتها وإيقاعاتها. وفي البال أنّ نظام روسيا الحليف يخوض حرباً “وجودية” وفق أدبيّات الكرملين ومنابره ويتعايش مع أخطار الداخل كتلك التي أثارها يفغيني بريغوجين، وهو من قلب النظام وأحد أعمدته، سواء في حلقة تمرّده أم في حلقة مصرعه قبل أيام. وفي مثال إيران وروسيا الدولتين اللتين تحميان نظام دمشق وبقاءه عبرة مطمئنة بشأن عاديّة التعايش مع مزاج غاضب من دون توتّر ووجل.
ليس غريباً أن لا يحظى حراك السويداء بردود فعل رسمية تصدر عن العواصم الكبرى المدافعة عن حقوق الإنسان أو حتى تلك المنخرطة كأوروبا والولايات المتحدة بمواقف محدّدة من سوريا وكيفية صناعة مستقبلها. ولا يبدو أنّ “أهل الجبل” يعوّلون على هذا الأمر أو ينتظرونه. فلم تعُد سوريا تحتاج إلى مواقف دبلوماسية من هذه العاصمة أو تلك، ولم يعُد السوريون أساساً يصدّقون همّة تلك العواصم وجهود المجتمع الدولي لانتشال بلدهم من مأساته التاريخية.
مع ذلك يمثّل حدث السويداء مناسبةً وظرفاً يتيحان للسوريين في الداخل، وفي الخارج، إعادة طرح قضية سوريا لدى المحافل الدولية ليس من نوافذ “لعبة الأمم” فوق الأراضي السورية، بل من بوّابة سوريا والسوريين. يستلزم التطوّر في مدن سوريا وساحاتها مهمّة صعبة ومعقّدة لإعادة رصّ الصفوف وترتيب الأولويّات وتطهير النصوص المتقادمة وتحديث لغة ولهجات تعي منطق الممكن والمستحيل.
التعويذة السورية… وعقم الخرائط
يعبّر حراك السويداء عن خصوبة التعويذة السورية المحلّية وعقم الخرائط التي ترسمها عواصم القرار في المنطقة والعالم لسوريا. لا يملك النظام أن يتعامل مع ظواهر الاعتراض في السويداء والساحل كما تعامل مع ظواهر سابقة في مناطق أخرى سهُل وسمها بالإرهاب وإلصاقها بـ”داعش” وقوى التطرّف. لكنّ النظام لا يحتمل، بحكم تركيبته، تضخّم أعراض الاعتراض بعدما زيّنت له الأمور الانتصار النهائي. كما أنّ إيران التي تعتبر غزوتها السورية مفصلَ وجود قد لا تسمح بتعايش مع فكرة الاحتجاج كما تعايشت طهران نفسها مع الفكرة في إيران.
إقرأ أيضاً: إيران: خدعة الاعتدال مقابل التشدّد
كان لافتاً أنّ أعلام سوريا وأعلام الثورة قد رُفعت في تظاهرات السويداء وكأنّ الفوارق لم تعُد مهمّة في سعي كلّ السوريين لإنتاج وطن. لكنّ اللافت أيضاً أنّ راية الحدود الخمس التي يرفعها الدروز كانت حاضرة بقوّة وكأنّ علم سوريا لم يعد حامياً وحده لأهل البلد. ولراية الحدود الخمس معانٍ ورسائل هويّاتية تتجاوز الحدود ويفهمها دروز لبنان والأردن وفلسطين وبقيّة أنحاء العالم.
تغيب لغة الأغلبية والأقلّية، وتتراجع على نحو مذهل الحساسيّات المذهبية في ما يصدر عن “الجبل” و”الساحل” وحوران وغيرها. في حراك اليوم ما يعيد أملاً سوريّاً بنهوض طائر الحريّة من الرماد.