اغتيال القيادي في “حركة النجباء”، التابعة لـ”الحشد الشعبي”، “أبي تقوى” وأحد مرافقيه، الذي نفّذته القوات الأميركية في العراق، تسبّب بالإحراج لرئيس وزراء العراق محمد شياع السوداني، خاصة أنّه جرى داخل بغداد وضدّ قاعدة عسكرية رسمية بالقرب من وزارة الداخلية في شارع فلسطين. لهذا السبب، وفي خلال الاحتفال الذي أُقيم في الذكرى السنوية الرابعة لاغتيال أبي مهدي المهندس، “نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي جمال جعفر آل إبراهيم، وضيف العراق الرسمي قاسم سليماني”، ذهب السوداني إلى اعتبار هذه العملية “ضربة لكلّ الأعراف والمواثيق والقوانين التي تحكم العلاقة بين العراق والولايات المتحدة الأميركية”، ووصفها بأنّها “جريمة نكراء غير مبرّرة”.
السوداني في موقف أكثر تشدّداً وصف الأعمال العسكرية الأميركية بأنّها “اعتداءات ضدّ مقارّ الحشد الشعبي بما يمثّل من كيان رسمي تابع للدولة وخاضع لها وجزء لا يتجزّأ من قواتنا المسلّحة.. وليس لأحد أن يتجاوز على سيادة العراق.. وهو يتجاوز روح ونصّ التفويض الذي أوجد التحالف الدولي”.
قد يفاقم قرار الانسحاب من دون تفاهمات واضحة أزمة الإدارة الأميركية، لجهة أنّ المستفيد الأول منه بعد الجانب الإيراني لن يكون سوى الخصم والعدوّ الروسي الذي يترقّب مثل هذه الخطوة
هذه التطوّرات والمواقف، التي تصبّ في سياق الضغوط التي مارستها الفصائل، بما هي أذرع إيرانية ملتزمة باستراتيجية “إخراج الأميركي من منطقة غرب آسيا”، على الحكومة العراقية، ومطالبتها بتنفيذ القرار الذي أصدره البرلمان العراقي في الخامس من كانون الثاني 2020 والذي ألزم الحكومة بالبدء بإجراءات إنهاء وجود القوات الأجنبية والأميركية على أرض العراق، ووقف كلّ أنواع التعاون بمختلف مسمّياته التدريبية والاستشارية، قد جاءت ترجمتها في الموقف الذي أعلنه السوداني وأكّد فيه أنّ حكومته “بصدد تحديد موعد بدء الحوار من خلال اللجنة الثنائية التي شُكّلت لتحديد ترتيبات إنهاء هذا الوجود، وهو التزام لن تتراجع عنه الحكومة ولن تفرّط بكلّ ما من شأنه استكمال السيادة الوطنية على أرض وسماء ومياه العراق”.
إخراج أميركا من سوريا أيضاً
هذا الموقف يضع طهران ومعها الفصائل الموالية لها أو أذرعها العراقية على بداية طريق تحقيق الهدف الاستراتيجي بإخراج القوات الأميركية من العراق، وهو الهدف الذي وضعه المرشد الأعلى قبل 4 سنوات كجزء من الردّ الإيراني على اغتيال سليماني.
إذا ما ذهبت واشنطن إلى خيار بحث آليّات الخروج الآمن من العراق وتأمين مصالحها في هذا البلد من خلال اتفاق يكون قائماً على نقاط تفاهم واضحة ومحدّدة مع الجانب الإيراني باعتباره المستفيد الأوّل من هذه الخطوة، فإنّ تداعيات هذا القرار لا تقف عند حدود الجغرافيا العراقية، بل ستشمل أو تتوسّع باتجاه الجغرافيا السورية وقواعد انتشار القوات الأميركية في مناطق شرق الفرات، أي أنّ الخروج من العراق يعني حتمية الخروج من سوريا. وفي ظلّ غياب أيّ تسوية سيكون بمنزلة استعادة أميركية للذاكرة البعيدة التي تتضمّن الخروج من فيتنام أو القريبة التي تشمل الخروج من أفغانستان. وقد يضع ذلك الإدارة الأميركية في مواجهة أزمة داخلية قد تعيد فتح ملفّ احتلال العراق عام 2003.
أرباح روسيا… خسائر إيران؟
قد يفاقم قرار الانسحاب من دون تفاهمات واضحة أزمة الإدارة الأميركية، لجهة أنّ المستفيد الأول منه بعد الجانب الإيراني لن يكون سوى الخصم والعدوّ الروسي الذي يترقّب مثل هذه الخطوة لاستكمال بناء مجالات نفوذه الاستراتيجية التي بدأت في أوكرانيا وتعزيز نفوذه في منطقة الشرق الأوسط وعلى سواحل بحرها الأبيض، مع ما يعنيه ذلك من إمكانية أن تدخل الساحة السورية في دائرة صراع مختلف نتيجة الانسحاب الأميركي، وهذه المرّة بين حليفين مفترضين هما الإيراني والروسي الذي سيسعى إلى ممارسة عملية معقّدة لفرض مزيد من الضغوط والمحاصرة للدور والنفوذ الإيرانيَّين على هذه الساحة.
ما يمكن أن يطرح أيّ قرار أميركي بالخروج من العراق وسوريا هي الترتيبات المرتبطة بجانب أساسي من مهمّة وجوده في هذين البلدين إلى جانب مصالحه الاقتصادية. وهو ما يتعلّق بدوره بتأمين مظلّة حماية أمنيّة لإسرائيل من التهديد الإيراني ومحور “المقاومة” الذي تقوده طهران، خصوصاً بعد الضربة التي تعرّضت لها الآلة أو المؤسسة العسكرية الإسرائيلية وقوة ردعها نتيجة عملية “طوفان الأقصى” وحالة عدم الاستقرار الأمني والنفسي والسياسي التي دخلت فيها. وهو ما يحتّم على واشنطن أن تأخذ هذه المستجدّات في اعتبارها عند اتّخاذ أيّ قرار يتعلّق بمستقبل وجودها المباشر في هذه المنطقة.
إقرأ أيضاً: السوداني بين المرشد وبلينكن: “تحديد” قصف قواعد أميركا
أين لبنان من هذا المستجدّ؟
من الاعتبارات الأساسية التي من المفترض أن تشكّل خلفيّة لأيّ إجراء أميركي يتعلّق بالانسحاب، أن يكون مثل هذا القرار مرتبطاً بالتوصّل إلى تفاهمات عملية مع الأطراف الإقليمية، وهنا تحديداً الجانب الإيراني، وتكريس تسوية حقيقية تساعد في إعادة أو فرض توازن نسبي في المعادلات الإقليمية، بحيث تلبّي المخاوف الأميركية المتعلّقة بأمن إسرائيل الجديدة، وهي تسوية أو تسويات من الصعب التوصّل إليها من دون تفاهمات مع طهران من جهة، ومع موسكو من جهة أخرى باعتبار أنّها ستحاول فرض نفسها الوريث الأكبر للدور الأميركي على الساحة الإقليمية، وتحديداً السورية بما تمثّله من ساحة نفوذ لإيران وحلفائها، خصوصاً أنّ أرضية مثل هذه التفاهمات باتت أقرب إلى التحقّق، خاصة مع الإشارات التي صدرت عن الأمين العام للحزب في خطابه الأخير عن وجود فرصة وصفها بـ”التاريخية”، فرضتها حالة الاشتباك القائمة على الحدود الجنوبية مع الجيش الإسرائيلي، “للتوصّل إلى تحرير كامل الأراضي اللبنانية من الناقورة إلى مزارع شبعا”، أي معادلة ترسيم الحدود بين لبنان وفلسطين لكن بتعابير مختلفة، وأيضاً في ظلّ إشارات واضحة في مواقف معلنة لقيادات محور المقاومة من طهران وصولاً إلى لبنان بما فيها قيادة حماس، عن الجهوزية لتسوية القضية الفلسطينية بشروط هذا المحور على أساس حلّ الدولتين وما يتضمّنه من اعتراف بالطرف الآخر الذي سيجلس إلى طاولة التفاوض.