ليس من باب الصدفة أن يخرج مستشار رئيس الوزراء العراقي للشؤون الأمنية خالد اليعقوبي ليذكّر بكلّ وضوح بالموقف العراقي الرسمي من الوجود العسكري الأميركي على أرض العراق، وأن يؤكّد من جهة عدم امتلاك الولايات المتحدة الأميركية لأيّ قواعد عسكرية في العراق، ومن جهة أخرى “الحاجة الماسّة إلى المستشارين والخبراء الأميركيين لمهمّات التدريب والتسليح وإدارة الأجواء، وهذه الحاجة تقتضي وتوجب وجودهم”. لأنّ هذا الكلام ينسجم مع مضمون اتفاق التعاون الاستراتيجي بين البلدين.
أشار اليعقوبي إلى أنّ الهجمات التي تستهدف أماكن وجود الأميركيين تضع العراق في أزمة، وطالب الحكومة بعدم السماح لمواقف شخصية أن تجرّ البلاد إلى مشاكل وأزمات باعتبار أنّ هذه التصرّفات تضعف الحكومة، خاصة في ظلّ الملفّات المعقّدة المشتركة بين العراق وأميركا والاختلافات الموجودة بينهما في بعض المسائل.
ليس من باب الصدفة أن يخرج مستشار رئيس الوزراء العراقي للشؤون الأمنية خالد اليعقوبي ليذكّر بكلّ وضوح بالموقف العراقي الرسمي من الوجود العسكري الأميركي على أرض العراق
رسالة بلينكن و”درعه الواقي”
تصدر هذه المواقف عن المستشار الأمني بعد الزيارة المفاجئة التي قام بها رئيسه، القائد العامّ للقوات المسلّحة العراقية محمد شياع السوداني، للعاصمة الإيرانية طهران، والتي جاءت بعد ساعات من انتهاء لقائه في بغداد مع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن مرتدياً “درعاً واقياً”.
كانت تلك رسالة واضحة إلى السوداني بأنّ واشنطن قد تذهب إلى إجراءات تصعيدية إذا ما استمرّ مسار بعض القوى العراقية بتحويل العراق إلى ساحة حرب أميركية نتيجة الأعمال التي تقوم بها بعض فصائل الحشد الشعبي واستهدافها للقواعد الأميركية في العراق وسوريا، وأنّ على الحكومة العراقية اتخاذ الإجراءات المناسبة لمنع تكرار أو وقف هذه الاعتداءات.
عبّرت لقاءات السوادني في طهران عن أهمية هذه الزيارة وما تحمله من رسائل أميركية وعراقية معاً. وكشف التعامل الإيراني مع هذه الزيارة السريعة والمفاجئة هذه الأهمية، وذلك بسبب اللقاء الحسّاس الذي عقده مع المرشد الأعلى للنظام السيد علي خامنئي. الذي والأخير نادراً ما يجتمع مع قادة الدول من زوّار إيران ما لم تكن الزيارة بحاجة إلى موقف حاسم وملزم وذات أهمية استراتيجية أو ضرورات تخدم الأمن القومي الإيراني يمسك المرشد بزمام قرارها. في حين أنّ لقاء السوداني مع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي تمحور حول آليّات تطبيق الاتفاق الأمني الموقّع بين البلدين وضرورة استكماله، خاصة ما يتعلّق بتولّي الحكومة الاتحادية مسؤولية الإدارة والإشراف والأمن على كامل الحدود المشتركة.
السوداني يحذّر “اللقاء التنسيقي”
السوداني لم يجد متّسعاً من الوقت لعقد لقاء مع قوى “الإطار التنسيقي” بعد انتهاء الاجتماع مع الزائر الأميركي لانشغاله بترتيب ملفّات زيارته لطهران. أو أنّه لم يجد ضرورة لعقد مثل هذا اللقاء وعدم الحاجة إلى وضع قادة “الإطار” في أجواء مباحثاته مع بلينكن والرسائل التي حملها لطهران وحلفائها العراقيين. لأنّ التفاهم مع القيادة الإيرانية كفيل بحسم الجدل الداخلي حول الموقف المطلوب باعتبار أنّ “الإطار التنسيقي”، وإن كان يلعب دور الداعم للسوداني في قيادة السلطة التنفيذية وقيادة القوات المسلّحة، إلا إنّه في الوقت نفسه يُعتبر الذراع الإيرانية السياسية والأمنيّة على الساحة العراقية وفي القرار السياسي للدولة. من هنا جاء اللقاء بين السوداني وقيادات “الإطار التنسيقي” بعد عودته من طهران. ليضع هذه القيادات في أجواء رسائل بلينكن العراقية والإيرانية، بالإضافة إلى نقل الموقف الإيراني الرسمي الصادر عن أعلى سلطة في النظام.
السوادني بعد زيارة استمرّت عدّة ساعات لطهران، عقد فور عودته إلى بغداد لقاء سريعاً في منزل سلفه رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي لأقطاب “الإطار التنسيقي”، بمن فيهم زعيم عصائب أهل الحق قيس الخزعلي وقائد كتائب سيد الشهداء أبو آلاء الولائي وزعيم تحالف الفتح وفيلق بدر، طرح خلاله أمام شركائه في السلطة التحذيرات التي سمعها من الوزير الأميركي، وأيضاً ما سمعه من المرشد الإيراني الذي حدّد موقف إيران من هذه التحذيرات وما سيكون عليه الموقف في المرحلة المقبلة.
السوداني لم يجد متّسعاً من الوقت لعقد لقاء مع قوى “الإطار التنسيقي” بعد انتهاء الاجتماع مع الزائر الأميركي لانشغاله بترتيب ملفّات زيارته لطهران. أو أنّه لم يجد ضرورة لعقد مثل هذا اللقاء
كان السوداني أميناً في نقل الموقف الذي سمعه من الزائر الليلي الأميركي، ووضع قيادات “الإطار” أمام حساسية الموقف الذي قد يتحوّل في حال تدهور الأمور إلى تهديد وجودي لكلّ السلطة والدولة العراقية. وهو الموقف الذي حرص أيضاً على نقله إلى الجانب الإيراني. خاصة ما يتعلّق بالمساعي الأميركية لتسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزّة. بالإضافة إلى مساعي واشنطن لإعلان “هدن إنسانية” في الحرب القائمة، ورفض بلاده وإدارته لأيّ عملية تهجير لأهالي غزّة إلى أيّ مكان آخر، وضرورة قطع الطريق على أيّ تصعيد قد يحدث في الضفة الغربية.
الردّ الأميركي في سوريا
الشرح الذي نقله السوداني عن بلينكن دار حول عملية “طوفان الأقصى” والصدمة التي شكّلتها للإدارة الأميركية وتل أبيب معاً، وأنّ إسرائيل لم تمرّ بمثل هذه الحالة من الضعف التي وضعت المؤسّستين العسكرية والأمنية أمام تهديد الانهيار. إلا أنّه في المقابل لم يتردّد في توجيه تحذير وتهديد إلى العراق بأنّ واشنطن لن تلتزم التهدئة في المرحلة المقبلة عندما اكتفت بعملية واحدة داخل الأراضي السورية على مواقع الحشد الشعبي ردّاً على الاعتداءات المتعدّدة التي استهدفت القواعد الأميركية.
وضع السوداني قيادات “الإطار التنسيقي” أمام مخاطر أيّ تصعيد منفلت ضدّ الوجود الأميركي، لافتاً إلى أنّ الولايات المتحدة ستلجأ إلى خطوات قد تؤدّي إلى انهيار الدولة والعراق على حدّ سواء، تبدأ من إغلاق السفارة الأميركية في بغداد وما يعنيه ذلك من التحاق الدول الأوروبية بهذه الخطوة، وقد تتطوّر الأمور إلى مقاطعة عربية في حال قامت فصائل الحشد باستهداف القواعد الأميركية في الدول الخليجية.
أمام ما سمعه السوداني من الزائر الأميركي وما أسمعه أو نقله إلى الجار الإيراني، فإنّ مصلحة الأطراف الثلاثة تجتمع على عدم الذهاب إلى التصعيد. فلا الأميركي يرغب في توسيع دائرة التوتّر الذي قد ينقل المنطقة إلى حرب مفتوحة ستفرض عليه التدخّل المباشر، ولا القيادة الإيرانية ترغب في التورّط بحرب مفتوحة ليست لمصلحتها أو مصلحة حلفائها في الإقليم. خاصة أنّ عملية حماس لم تكن بتوقيت إيران أو توقيت المحور الذي تقوده، وهي ستكتفي بالمستوى القائم والإبقاء عليه في حدود الاستنزاف أو السير بحسابات دقيقة على حافة الحرب، وترك هامش لبعض الفصائل العراقية مثل كتائب الإمام علي وحركة النجباء يسمح لها باستهداف مدروس للقواعد الأميركية لا يورّط الحشد الشعبي وقوى “الإطار التنسيقي” والعراق ومن ورائهم إيران. خاصة أنّ موقف “الإطار” لم يذهب إلى التصعيد أو التهديد، والتزم السقف الذي ينسجم مع الموقف الرسمي الذي أعلنه السوداني في قمّة السلام في القاهرة.
إقرأ أيضاً: إيران تعود إلى المبادرة العربيّة للسلام؟
هذا المستوى في المواقف والهامش الذي تعمل تحته الفصائل ضدّ القواعد الأميركية في العراق وسوريا، يسمحان لطهران بالحفاظ على التفاهمات التي سبق أن نسجتها مع واشنطن والتي رسمت فيها حدود مصالح الطرفين على الساحة العراقية وسمحت بتشكيل حكومة السوداني المحسوبة على إيران، ويفسّرهما كلام المرشد الإيراني للسوداني بالرهان على دور وسيط وفاعل للعراق وحكومته على مستويين إقليمي ودولي، خاصة مع الدول العربية.