يعلم “حزب الله” علم اليقين أنّ عدد معارضيه من اللبنانيين أكبر بما لا قياس من عدد المتظاهرين الذين نزلوا إلى ساحة الشهداء السبت حاملين شعارات تطالب بنزع سلاحه وتطبيق القرار 1559. هذه الحقيقة تدفعه إلى المسارعة لشيطنة وضرب أيّ مبادرة سياسية أو شعبية تثير ملف سلاحه أيّا تكن خلفياتها، حتّى لو كانت وطنيّة بحت. فالأولوية السياسية لدى الحزب هي إبقاء ملف “السلاح غير الشرعي” خارج الضوء، ومنع تكوّن واتّساع أيّ وعاء شعبي أو سياسي يتناوله.
هذا ما يفسّر الاستنفار “الشعبي” والسياسي والإعلامي الذي قابل به الحزب الدعوات إلى التظاهر ضدّ سلاحه، بالرغم من علمه المسبق بالقدرة المحدودة لهذه الدعوات على التعبئة والحشد. إلّا أنّها على محدوديتها تعيد تظهير الانقسام حول سلاحه إلى الواجهة. وذلك في لحظة هو أحوج ما يكون فيها إلى تحييد سلاحه وإبقائه خارج التداول كما كانت عليه الحال في السنوات الماضية، وذلك لاعتبارات عدّة. أولها مخاوفه من تعميم الربط بين سلاحه والأزمة الاقتصادية والمالية الحاصلة، بينما يجاهد لتصوير نفسه منشغلاً في البحث عن حلول لتلك الأزمة التي يلقي أسبابها على “سياسات الثلاثين سنة الماضية”. وثانيها أنّ ارتدادات سياسة “الضغوط القصوى” التي تتبعها أميركا ضدّ إيران باتت أقرب إلى حزب الله أكثر من أيّ وقت مضى مع دخول قانون “قيصر” الخاص بسوريا حيّز التنفيذ. وقد بدأت تبعاته بالظهور تباعاً مع الانهيار المتسارع لسعر صرف الليرة السورية، والذي ردّ المبعوث الأميركي لسوريا أحد أسبابه إلى “عدم قدرة النظام السوري على تبييض الأموال في المصارف اللبنانية التي تعاني هي أيضاً من أزمة”. وهو ما يؤشر إلى ترابط الأزمتين السورية واللبنانية. كذلك فقد سبّب هذا القانون ارتباكاً لحكومة الرئيس حسّان دياب بعدما أثار مجرّد طرحه على طاولة مجلس الوزراء ارتياب الحزب وهواجسه.
إقرأ أيضاً: رسالة حزب الله “الحربية”: لا أحد “على السمع”..
لذلك بدا “حزب الله”، السبت الماضي، مستعداً لاستخدام شتّى الوسائل، لمنع مرور التظاهرة “المحدودة” ضدّ سلاحه على خير. وقد رُفعت جاهزية مناصريه في الأحياء المحاذية لساحة الشهداء بعد أن كانت وسائل إعلامه وجيوشه الإلكترونية قد مارست طقوس التعبئة والتي بات “جمهور المقاومة” يتفاعل معها بسرعة. كما طُرح شعار “سلاحنا دونه الدم” الذي يعدّ نسخة منقّحة عن شعار “السلاح دفاعاً عن السلاح” الذي رفعه الأمين العام لـ “حزب الله” في أحداث 7 أيار 2007. هذا فضلاً عن نشر فيديوهات ساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي تظهر أنصاراً للحزب يعرضون أسلحتهم الرشاشة والصاروخية قائلين إنّهم يستعدّون لتسليمها للدولة. كلّ ذلك كان كافياً للدلالة على الموقف الحقيقي للحزب: لن نسمح بعودة سلاحنا بنداً للنقاش والتداول في لبنان.
مرّ السبت. لكنّ انقضاءه خلّف وقائع خطيرة، أولها عودة ارتسام مشهد الفتنة السنّية – الشيعية بين كورنيش المزرعة وبربور، كما مشهد خطوط تماس الحرب الأهلية بين المسيحيين والشيعة في الشيّاح وعين الرمانة. وثانيها أنّ مجريات ذلك اليوم الطويل طرحت أسئلة حول ملامح المرحلة المقبلة، وما إذا كانت أحداثه قابلة للتكرار وعلى نحوٍ أوسع، في ظلّ تفاقم الأزمة الاقتصادية التي تولّد احتقانات اجتماعية حادّة يمكن استغلالها سياسياً على وقع إعادة خلط الأوراق السياسية العسكرية في المنطقة.
لقد استطاع “حزب الله” السبت، إعادة رسم خط أحمر حول سلاحه، تماماً كما فعل في 7 أيار 2007، لكن هذه المرّة بكلفة أقلّ. أي أنّه أعاد تثبيت معادلة: “السلاح أو الفتنة” و/أو “السلاح أو الحرب الأهلية”. تلك الحرب التي أكّد السيّد حسن نصرالله في مقابلته التلفزيونية الأخيرة أنّها بمثابة “فوبيا”. وهو إذ يعلم أنّ حرباً كهذه منعدمة الشروط راهناً، لاسيّما أنّ حزب الله هو الجهة الوحيدة التي تمتلك ديمومة أدواتها العسكرية والتعبوية والمالية، فإنّ طرحها على هذا النحو لا يعدو كونه تذكيراً من قبل الحزب بقدرته على هزم خصومه. أي أنّ طرحها يندرج في إطار سعي “حزب الله” الدؤوب لتدجين اللعبة السياسية وإبقائها تحت سقوف معيّنة، بما يتيح له تأمين استمرارية شبكة الأمان السياسيّة حول سلاحه. تماماً كما حصل السبت الماضي لمجرّد مسارعة القوى السياسيّة، والمرجعيات الدينية المعنية – مدفوعة بهواجس وطنية محقّة – إلى المطالبة بدرء الفتنة. فهل تيار “المستقبل” الذي يبرّد مع الحزب في وارد التصعيد بوجهه في كورنيش المزرعة؟ وهل “القوات اللبنانية” التي لا تني تتبادل الرسائل الإيجابية مع الحزب مستعدّة للاشتباك معه في عين الرمانة؟ طبعاً لا. و”حزب الله” يعلم ذلك جيداً ويتصرّف على هذا الأساس.
كلّ ذلك يؤكّد أنّ شبكة الأمان حول سلاح “حزب الله” هي في الواقع شبكة هشّة ومصطنعة، ما دام الوعاء السياسي الذي تتكوّن فيه من الطينة نفسها
نجح حزب الله إذاً في إعادة إنتاج الستاتيكو الحالي والقائم على معادلة: “السلاح مقابل الاستقرار”. لكنّ ذلك لا يلغي الانقسام الفعلي حول سلاحه. ولا يحلّ الأزمة الاقتصادية الاجتماعية المتفاقمة التي تعجز التركيبة الحاكمة عن إيجاد حلول سريعة لها في ظلّ التبعات اللبنانية للمواجهة الأميركية الإيرانية والتي يشكّل سلاح حزب الله أحد عناوينها. أي إنّ الستاتيكو الذي يريد حزب الله الحفاظ عليه هو ستاتيكو مأزوم، ومعضلته الأساسيّة أن الحزب يرفض أيّ محاولة لتجاوزه إلا وفق شروطه السياسية والأمنية. أي إنّه يريد الإبقاء على حالة الاختلال وانعدام التوازن في الحياة السياسية، التي بشّرت بها التسوية الرئاسية في العام 2016، ثمّ كرّستها التركيبة الحكومية الحالية.
كلّ ذلك يؤكّد أنّ شبكة الأمان حول سلاح “حزب الله” هي في الواقع شبكة هشّة ومصطنعة، ما دام الوعاء السياسي الذي تتكوّن فيه من الطينة نفسها. إلّا أنّ الحزب لا يزال حتّى اللحظة يشعر بأنّ الاصطناع والهشاشة هذين مفيدان له، ولو على حساب تأمين الشروط الحقيقية للاستقرار السياسي والأمني والمنوطة بإعادة حدّ أدنى من التوازن إلى الحياة السياسية والنقاش السياسي بما في ذلك النقاش حول سلاح “حزب الله”. عوض أن ينحدر هذا النقاش إلى الشارع كما حصل السبت الماضي. إلّا إذا كان الحزب يريد من رسائل يوم السبت الإعلان أنّها المرّة الأخيرة التي يسمح فيها بطرح سلاحه على طاولة النقاش السياسي. وهو ما لا تنفيه الوقائع أصلاً!