بخبرات السنين المُتراكمة وبحكمة صَقَلتها تجارب عقود في العمل التشريعي والسياسي، نجح رئيس مجلس الأمّة الكويتي أحمد السعدون في اكتساب احترام النواب والحكومة، من خلال إدارته الدفّة باقتدار خلال أوّل شهرين من عمر البرلمان، لكنّ موقفه من بعض التجّار المقترن بروح انتقامية وتهديد بالمحاسبة من ضمن حملة معروفة التوجّهات، أثار ضدّه الكثير من ردود الفعل.
لطالما كان منصب رئيس مجلس الأمّة في الكويت محورياً على كلّ المستويات، فهو الرجل الثالث في الترتيب البروتوكوليّ بعد الأمير ووليّ العهد وقبل رئيس الوزراء، ويمتلك سلطة لا يُستهان بها في تحديد مسار سفينة البرلمان، فإن شاء نامَت قوانين واستيقظت أخرى، أو أُعيد تصويت وثُبّت آخر، فضلاً عن دوره الرئيسي في تحديد جدول الأعمال الذي تنطلق منه القوانين إلى محطّتها الأخيرة.
ما بين 2012 و2023
بعد الانتخابات النيابية التي جرت في 2012، فاز السعدون في انتخابات رئاسة المجلس في شباط من ذلك العام، لكنّه لم يستمرّ أكثر من 4 أشهر، بسبب قرار المحكمة الدستورية بعدم شرعية المجلس، بسبب بطلان مرسوم حلّ المجلس السابق المنتخَب في 2009.
بعد ذلك، تمّ تعديل قانون الانتخابات لجهة الدوائر والأصوات، فغاب السعدون عن الساحة مع مجموعة كبيرة من رجال السياسة، اعتراضاً على ذلك التعديل الذي اعتبروه غير مُنصِف ولا يعكس الإرادة الشعبية الحقيقية.
كلمة السعدون الختامية كانت بروتوكولية مليئة بعبارات مُكرّرة، لكن سبقتها قبل نحو نصف ساعة كلمة أخرى كانت مختلفة شكلاً ومضموناً وفي كلّ شيء
توالت السنوات ومرّت عشرٌ منها، قبل أن يعود الرجل المُخضرم إلى الميدان التشريعي، لوصوله مع آخرين إلى قناعة بأنّ المشاركة أجدى من المقاطعة، وأنّ التغيير من الداخل أفضل من البقاء في الخارج.
في انتخابات أيلول 2022، حصل السعدون على رقم قياسي (أكثر من 12 ألفاً) من الأصوات، وكأنّ الناخب الكويتي أراد إيصال رسالة، فهِمها سريعاً أعضاء البرلمان الجديد، فأعادوا “العمّ” إلى منصّة رئاسة المجلس بالتزكية وبلا انتخاب.
تكرّر سيناريو إبطال المجلس في آذار 2023 وأُجريت الانتخابات مجدّداً في حزيران 2023، وأُعيدت تزكية السعدون رئيساً للمجلس.
المايسترو
سريعاً، وضع النواب والحكومة “خارطة تشريعية” قوامها 4 قوانين، وتخلّوا عن جزء من عطلتهم الصيفية لإقرارها خلال أسابيع.
وبالفعل، هذا ما حصل خلال أقلّ من شهرين، فأقرّ مجلس الأمّة، وبموافقة الحكومة، القوانين الأربعة، وأهمّها اثنان من شأنهما إنهاء حقبة وتدشين أخرى:
– الأوّل هو تعديل قانون إنشاء المحكمة الدستورية، وتصويب صلاحيّاتها واختصاصاتها، بحيث لم يعد ممكناً لها أن “تُبطل” المجلس لأخطاء إجرائية، لأنّ الطعون على المراسيم باتت واجبة النظر قبل إجراء الانتخابات وليس بعدها.
بذلك، انتهت حقبة إبطال المجالس المُنتخبة بقرارات من السلطة القضائية، ليبقى طريق واحد، وهو “حلّ” المجلس بمرسوم أميريّ في حال استفحال الخلافات مع الحكومة.
– الثاني هو قانون إنشاء مفوضيّة عامّة للانتخابات، لضبط الاقتراع بجميع تفاصيله، وتمّ من خلاله تمرير مادّة تسمح بعودة السياسيين الذين صدرت بحقّهم أحكام بسبب الإساءة للأمير، شرط ردّ اعتبارهم من القضاء، بعدما كان في السابق حرمانهم من الترشّح “أبديّاً”.
في الكويت، ليسَ يسيراً مرور قانونَيْن بهذا الحجم خلال أسابيع قليلة، من دون وجود “محدلة” توافقية بين السلطتين التنفيذية والتشريعية و”مايسترو” لضبط الجلسات ومنع انزلاقها إلى المحظور، وهو ما يمكن أن يؤدّي إلى رفعها، وركن الملفّات في الأدراج، كما حصل مراراً في العقد الأخير.
لعب السعدون بجدارة دور هذا “المايسترو” فاستحقّ إشادة نادرة من الحكومة، التي قال رئيسها الشيخ أحمد النوّاف في كلمته خلال الجلسة الختامية للمجلس، الأربعاء الماضي: “إذا كان من كلمة يجب أن تُقال فإنّني أتقدّم باسم الحكومة إلى معالي الأخ أحمد السعدون رئيس مجلس الأمّة بوافر التقدير والثناء على إدارته للجلسات بحكمة وخبرة، فكان خير معين على تحقيق الإنجازات”.
الحساب آتٍ
يدرك رئيس الحكومة أنّ “الانضباط” شرط جوهري لاستمرار الجلسات، وهو أيضاً حصل على إشادة من السعدون في كلمته الختامية التي تحدّث فيها عن دعم نيابي وشعبي حصلت عليه الحكومة، ولم تسبقها إليه أيّ حكومة أخرى، معتبراً أنّها تستحقّ ذلك لأنّ “رئيسها لا يقبل أن يتدخّل أحد في عمله”.
كلمة السعدون الختامية كانت بروتوكولية مليئة بعبارات مُكرّرة، لكن سبقتها قبل نحو نصف ساعة كلمة أخرى كانت مختلفة شكلاً ومضموناً وفي كلّ شيء.
نزل السعدون عن منصّة الرئاسة، ووقف أمام المجلس كمُشرِّع ليتحدّث ارتجالاً لنحو 49 دقيقة، وهو القريب من التسعين ربيعاً، موجّهاً رسائل في مختلف الاتّجاهات عنوانها “الحساب آتٍ”.
في إشارة إلى قسم من التجّار من دون تسميتهم، هاجم السعدون أناساً خارج المجلس وخارج الحكومة “يعبثون ويتحكّمون في كلّ شيء”، كاشفاً أنّه قال لوزراء في حكومة سابقة: “لا تخافوا منهم فهم نمور من ورق”، قبل أن يضيف: “الآن أقول إنّهم قطط من ورق”.
ردّاً على مقولة سابقة بأنّ التجّار ساهموا في بناء الكويت، قال السعدون: “للذين يقولون نحن الذين بنينا الكويت أقول لهم ليس لكم أيّ فضل على الكويت”.
تحدّث عن “مرحلة غير عاديّة بكلّ المقاييس” و”تحوّل جذري” و”فرصة أخيرة أمام الفاسدين”، مؤكّداً أنّه “سيكون الدور عليهم وفقاً للقانون وبما جنت أيديهم”.
علاوة على التنويه بقدراته الخطابية ووقوفه لمدّة 49 دقيقة متواصلة، لاقى خطاب السعدون إشادات من البعض إلى حدّ اعتباره “تاريخيّاً”، ووصفه كثيرون بـ”الرمز الوطني” و”رجل الدولة”.
لكن في المقابل، تعرّض أيضاً لانتقادات من قبل كثيرين اعتبروا أنّ هجومه على شريحة التجّار غير مُبرّر، وأنّه تحدّث عنهم بكلام لا يليق بهم، لا سيّما أنّ لهم فعلاً دوراً تاريخياً في بناء الكويت.
إضافة إلى ذلك، كان السعدون في سدّة المسؤولية لسنوات طويلة، وواكب حقبة طويلة حين كان رئيساً للمجلس أو مُشرّعاً، وبالتالي لا يمكنه الحديث وكأنّه بعيد تماماً عن كلّ ما جرى سابقاً.
إقرأ أيضاً: انتخابات الفرصة الأخيرة في الكويت؟
اعتبر المنتقدون أنّ الرجل المخضرم يُمهّد للمرحلة المقبلة المتوقّع أن تكون حبلى بالتطوّرات، خاصة إذا تمّ بالفعل الاستمرار في “تشريح” المرحلة السابقة ومحاسبة المسؤولين عن اتخاذ بعض القرارات التي كانت أساسية في رسم المشهد السياسي.
بناء عليه، يتساءل البعض عن احتمال أن يقود السعدون (أو يساهم بشكل أساسي في) المعركة التي تلوح في الأفق ضدّ رموز الحقبة السابقة وبعض التجّار، ويتوقّع كثيرون أن تبدأ مع دور الانعقاد الثاني لمجلس الأمّة في شهر تشرين الأول المقبل، مع ما لذلك من تبعات هائلة، ليس فقط على العملية السياسية، وإنّما أيضاً على الاستقرار في الكويت.