من المعروف أنّ آخر تصحيح للأجور حصل سنة 2012، على شكل زيادة غلاء معيشة استفاد منها كلّ من موظفي القطاع العام والخاص. منذ تلك السنة، تضاعفت أسعار السوق بحسب أرقام الإدارة المركزيّة للإحصاء 2.8 مرّة، فيما ارتفعت الأسعار بنحو 1.2 مرّة منذ نهاية السنة الماضية وحتّى اليوم بفعل أزمة سعر صرف الدولار وما نتج عنها من ارتفاع قياسي في أسعار السلع الاستهلاكيّة والخدمات. ورغم أنّ الاتفاق الرضائي الذي عقدته قيادة الاتحاد العمالي العام مع هيئات أصحاب العمل سنة 2012 قضى بإعادة النظر بالأجور سنويّاً في ضوء مؤشّر أسعار الاستهلاك الذي تصدره الإدارة المركزيّة للإحصاء، لم يجد هذا الاتفاق طريقه للتنفيذ طوال السنوات الثمانية الماضية وحتّى اليوم. أما النتيجة البديهيّة لكلّ هذه التطوّرات، فهو سقوط قدرة اللبنانيين كليّاً على الادّخار، فيما يبدو أنّ رواتب اللبنانيين لم تعد تكفيهم حتّى نهاية الشهر.
وفقاً للإحصاءات، يبلغ متوسّط رواتب اللبنانيين اليوم نحو 2,140,000 ليرة لبنانيّة، أي ما يقارب 280 دولار أميركي فقط، فيما يتقاضى أكثر من نصف اللبنانيين رواتب تقلّ عن هذا المبلغ. في المقابل، يتقاضى نحو ربع اللبنانيين رواتب تقلّ عن 1.220.000 ليرة لبنانيّة، أي أقل من 160 دولار شهريّاً، بينما لا يتقاضى سوى ربع اللبنانيين رواتب تزيد عن مستوى 5.790.000 ليرة لبنانيّة، أي 760 دولار أميركي.
منذ العام 2012 تضاعفت أسعار السوق بحسب أرقام الإدارة المركزيّة للإحصاء 2.8 مرّة، فيما ارتفعت الأسعار بنحو 1.2 مرّة منذ نهاية السنة الماضية وحتّى اليوم بفعل أزمة سعر صرف الدولار وما نتج عنها من ارتفاع قياسي في أسعار السلع الاستهلاكيّة والخدمات
حجم الرواتب الزهيد، مقارنة بارتفاع أسعار السوق، وجد طريقه سريعاً إلى التأثير في ميزانيّات الأسر وطريقة إنفاقها. فوفقاً لتقرير أعدّته Fitch Solutions، بات الإنفاق على الأساسيّات يستهلك 72.3% من مدخول الأسر اللبنانيّة، علماً أنّ الأساسيّات تشمل هنا الأكل والمشروبات والسكن والنقل والاتصالات والكهرباء. مع العلم أنّ التقرير نفسه يشير إلى أنّ كلفة الخدمات الأساسيّة من مياه وكهرباء وغاز هي الأعلى على الإطلاق في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهو ما يزيد من الضغوط على ميزانيات الأسر وطريقة إنفاقها.
بعد إضافة كلفة الطبابة والملبوسات والأثاث والتعليم وغيرها من تكاليف المعيشة، لا يتبقّى للأسر اللبنانيّة سوى 1.5% فقط من إجمالي إنفاقها للترفيه والكماليّات، مع العلم أنّ هذا البند يشمل أموراً لم يعد من الممكن الاستغناء عنها، كشراء الكومبيوتر والإنترنت والهواتف المحمولة وألعاب الأطفال وغيرها. ما يعني أنّ رواتب اللبنانيين لم تعد تكفي لتأمين أبسط مقوّمات الحياة الطبيعيّة في القرن الواحد والعشرين. لقد بات الفقر سيّد الموقف.
وبانعدام القدرة على تأمين أبسط مقوّمات الحياة، تنعدم القدرة أيضاً على الادّخار لمواجهة الحالات الطارئة وغير المتوقّعة. فعلى سبيل المثال، تشير تقديرات البنك الدولي إلى أنّ نسبة ادّخار الأسر من الناتج المحلي بلغت معدّلاً سلبياً قارب 2%، في مقابل معدّل إيجابي يتجاوز الـ 25% على مستوى العالم. بمعنى آخر، باتت الأسر اللبنانيّة تستدين بدل أن تدّخر، علماً أنّ المعدّل السلبي كان من الممكن أن يكون أكبر بكثير لو أنّ المصارف كانت قادرة على الاستمرار بمنح القروض الإضافيّة للأسر.
بعد إضافة كلفة الطبابة والملبوسات والأثاث والتعليم وغيرها من تكاليف المعيشة، لا يتبقّى للأسر اللبنانيّة سوى 1.5% فقط من إجمالي إنفاقها للترفيه والكماليّات
هكذا باتت الأسر اللبنانيّة عالقة بين مطرقة تلاشي قدرة الأجور الشرائيّة وانعدام قدرتها على الادّخار، وسندان توقّف القروض المصرفيّة، وهو ما يعني أنّ هذه الأسر ستكون خلال الفترة المقبلة ضحيّة محتملة لأيّ حاجة ماسّة للسيولة يمكن أن تطرأ على نحوٍ مفاجىء وغير متوقّع.
هذه التطوّرات لن تترك أثرها في الحالة المعيشيّة للأسر اللبنانيّة فقط، بل ستتسبّب بسلسلة من التداعيات السيئة على المستوى الاقتصادي، وهو ما سيفاقم من أثر الأزمة القائمة. فتراجع قدرة اللبنانيين على الاستهلاك لا يعني اليوم – بحسب وكالة Fitch Solutions نفسها – سوى تراجع جاذبية البلاد بالنسبة إلى تجار التجزئة والمستثمرين، وهو ما سيعني توسّع ظاهرة إقفال المؤسسات التجاريّة والإنتاجيّة وتسريح العمّال، ما يعني ارتفاع معدّلات البطالة التي ستؤدّي مجدّداً إلى المزيد من التراجع في قدرة اللبنانيين على الاستهلاك.
إقرأ أيضاً: الفاو تحذّر: لبنان على شفير المجاعة
باختصار، ستكون حلقة مفرغة من الأحداث السلبيّة التي ستؤدّي أيضاً إلى ارتفاع معدّلات الهجرة، وخصوصاً في صفوف الشباب وأصحاب الكفاءات، مع ما يعنيه ذلك من فقدان البلاد لمقوّمات النهوض الاقتصادي على المدى الطويل.
على أي حال، لا يبدو أنّ هذه الأرقام ستكون نهاية المطاب بالنسبة إلى دخل اللبنانيين، فإذا اعتبرنا أنّ لبنان سيخسر ربع ناتجه المحلّي خلال هذا العام، وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي نفسه، فمن المتوقّع أن يخسر اللبنانيون نسبة معتبرة من دخلهم نتيجة هذا العامل بالذات، خصوصاً أنّ الناتج يقاس بإجمالي السلع والخدمات التي جرى إنتاجها في دولة ما خلال فترة زمنيّة معيّنة. وبذلك، يكون جميع المقيمين في البلاد في نفق لا يبدو أنّه سينتهي، في غياب أيّ خطة رسميّة متكاملة مجمع عليها أو حتّى رؤية مبدئيّة لكيفيّة الخروج من نفق الانهيار الحاصل اليوم.