لم يعد بالإمكان فصل خيط التحقيق في انفجار المرفأ عن خيط ولادة الحكومة وخيوط رفع الدعم ومصير الاحتياطي الإلزامي ومسار “معركة” الملفّات القضائية المفتوحة. فقد تداخلت الأحداث وتشابكت إلى حدّ الفوضى المنظّمة برعاية ما “شُبّه” أنّه دولة.
والنتيجة: حالة “الهذيان” السياسي والمالي وصلت إلى عتبة القضاء. بعد أكثر من أربعة أشهر من تعيين القاضي فادي صوّان محقّقاً عدلياً في جريمة المرفأ يبدو “الريّس” مُحاصراً من أكثر من جهة. أهالي ضحايا تقجير المرفأ يطالبونه بالحقيقة الكاملة لا المُجتزأة. لوبي “سياسي” يدينه بتهمة الانحياز والتبعية وتنفيذ أجندة سياسية. مدّعى عليهم من الفئة “أ” من السياسيين يرفضون المثول أمامه وفوق ذلك يحاولون إطاحته عبر طلب تنحّيه للارتياب المشروع. ومجلس نواب يردّ له الصَاع “صاعين” من خلال رسالتين أقرب إلى التأنيب ومحاولة إفهامه حدود صلاحياته كمحقّق عدلي في الجريمة!
وإلى حين إصدار القاضي صوان الدفعة المرتقبة من ادّعاءات يجزم مطلعون أنّها “على الطريق”، هذا إذا لم تكفّ يده نهائياً عن الملفّ، رُسِمت علامات استفهامٍ حول قانونية استمراره بمهامه بعد تقديم النائبين علي حسن خليل وغازي زعيتر إلى محكمة التمييز طلب نقل الملفّ إلى قاضٍ آخر بدعوى الارتياب المشروع “والمحاباة”، وارتباط هذا المعطى بحضور مدير عام أمن الدولة اللواء صليبا كمدّعى عليه أمس الى قصر العدل وعدم استجوابه من قبل المحقّق العدلي وتأجيل إجراء المواجهة التي كانت مقرّرة بينه وبين الرائد في أمن الدولة جوزف النداف.
بعد أكثر من أربعة أشهر من تعيين القاضي فادي صوّان محقّقاً عدلياً في جريمة المرفأ يبدو “الريّس” مُحاصراً من أكثر من جهة
فوفق المادة 340 من قانون أصول المحاكمات الجزائية تتولى إحدى الغرف الجزائية في محكمة التمييز مهمّة الفصل في طلب نقل الدعوى من مرجع قضائي إلى آخر وتُقرّر رفع يد مرجع قضائي في التحقيق أو الحكم أو عن الدعوى وتحميلها الى مرجع آخر: “ولا يُوقِف تقديمُ الاستدعاء السيرَ في الدعوى إلا إذا قرّرت محكمة التمييز خلاف ذلك”.
لكنّ القاضي صوّان اختار تعليق التحقيق لعشرة أيام وهي المهلة التي يتحتّم عليه فيها “مع جميع فرقاء الدعوى”، وفق المادة نفسها، الإجابة على طلب النقل وتقديم الملاحظات. ووفق قانونيين، لم يكن صوان ملزماً بتعليق التحقيق وكان بإمكانه الاستمرار في استجواب المدّعى عليهم إلى حين بتّ محكمة التمييز الجزائية برئاسة القاضي جمال الحجّار بالمذاكرة. وهو واقع شرّع الباب على تساؤلات جدّية حول حقيقة حصول ضغوطات حَرفت مسار التحقيق وأدخلته في دهاليز الحسابات السياسية.
جُمّد التحقيق إذاً بانتظار تقرير “مصير” المحقّق العدلي. القضاء مرّة جديدة رهينة تصفية الحسابات السياسية وحماية المقامات في ظل سؤالٍ يطرح عن القاضي “الانتحاري” الذي سيقبل المهمّة في حال تنحية القاضي صوّان عن الملفّ.
وهكذا لن يضطّر رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب الى التهرّب من جلسة المواجهة التي كانت مقرّرة مع صوّان غداً. وعلى الأرجح ستطير جلسة استجواب الوزيرين السابقين زعيتر وخليل التي تقصّد القاضي صوّان تحديدها في 4 كانون الثاني المقبل، أي خارج العقد العادي لمجلس النواب، ما يجعله متحرّراً من نصّ المادة 40 من الدستور التي تتعلّق بحصانة النوّاب. كما سيبقى كافة المتورّطين المفترضين خارج دائرة الملاحقة إلى حين إعادة الملفّ الى يدّ صوّان أو تطييره واستبداله بقاضٍ آخر. والأهمّ: قد يبقى عدد من الأبرياء الموقوفين بالقضية “سجناء” انحراف التحقيق عن مساره ودخوله متاهات سياسية وقضائية يُخشى معها تمييع هوية المسؤولين الحقيقيين عن كارثة المرفأ.
ويوم أمس كان يمكن للمواجهة بين اللواء صليبا ورئيس مكتب أمن الدولة في المرفأ الرائد جوزف الندّاف أن تكشف ملابسات دور هذا الجهاز الأمني ومسؤوليته، خصوصاً مع وجود رأي عام يعتبر أنّ الأخير تحوّل الى كبش محرقة تماماً كما بعض الموقوفين.
فالندّاف كان له دورٌ أساسيٌ في كشف فضيحة نيترات الاميونيوم نهاية العام الفائت، حين بادر إلى إبلاغ قيادته بالأمر، إلا أنّ المحقّق العدلي قرّر توقيفه.
وفق قانونيين، لم يكن صوان ملزماً بتعليق التحقيق وكان بإمكانه الاستمرار في استجواب المدّعى عليهم إلى حين بتّ محكمة التمييز الجزائية برئاسة القاضي جمال الحجّار بالمذاكرة. وهو واقع شرّع الباب على تساؤلات جدّية حول حقيقة حصول ضغوطات حَرفت مسار التحقيق وأدخلته في دهاليز الحسابات السياسية
وتقول المعلومات إنّ الندّاف أرسل تقريراً إلى مديرية أمن الدولة عن العنبر رقم 12 في 7 كانون الأوّل 2019 ضمّنه شرحاً عن وضع العنبر والفجوة فيه ما يتيح إمكانية سرقة محتوياته. وأنّ نسخة من هذا التقرير وصلت يومها أيضاً إلى يد المستشار الأمني لرئيس الجمهورية، أي قبل نحو ثمانية أشهر من اطّلاع رئيس الجمهورية للمرّة الأولى، كما قال، على تقرير أمن الدولة في 21 تموز الماضي.
ثم كلّفت قيادة المديرية الندّاف آخر كانون الثاني 2020 بإجراء تحقيقٍ موسّع، لكنه لم ينفّذ المهمّة إلا بعد نحو أربعة أشهر، وتحديداً في 28 أيار الماضي. والتقرير الذي رفعه لاحقاً لا يتضمّن مسحاً لمحتويات العنبر ولا كشف أسباب وجود فتحة كبيرة في جدار العنبر والأضرار التي لحقت ببابه.
إقرأ أيضاً: صوّان في قفص “الارتياب”… و”السَهو”!
كذلك كان من شأن المواجهة أن تكشف ملابسات مخابرة الرائد النداف للمدّعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات في أيّار الماضي والإشارة القضائية التي أعطاها له بتأمين حراسة على العنبر وتعيين أمين مستودع له والاستماع إلى مسؤولين محدّدين في المرفأ.
وهو إطار كان سيحدّد أيضأ المسؤولية المباشرة للواء صليبا، المدّعى عليه في القضية إذ تؤكّد معطيات التحقيق أنّ المديرية تأخّرت أكثر من شهر ونصف الشهر عن تكليف الندّاف بإجراء التحقيق، وعن كشف أسباب عدم البدء بأعمال الصيانة إلا بعد مرور شهرين على ختم محضر التحقيق لدى أمن الدولة.
هذا جزءٌ بسيط جداً من تعقيدات وخفايا تتحكّم بملف تفجير المرفأ قد تقود في ظل التطاحن السياسي- القضائي القائم إلى تجهيل هوية المرتكبين أو المقصّرين الأساسيين و”حطّها بظهر” من لا مسؤولية عليه بشكل مباشر. خصوصاً في ظل عدم توافر أجوبة حتى الآن عن خلفيات وصول سفينة الموت إلى مرفأ بيروت والرعاية التي تأمّنت لبقاء قنبلة النيترات لسبع سنوات حتّى لحظة انفجارها.