هي “إمبراطوريّةٌ” فرنسية، باقية وتتمدّد. المقصود مجموعة الشحن الفرنسية “CMA-CGM” المملوكة من آل سعادة. تتوسّع في المواقع الاستراتيجية في هذا البلد المنهك، وبغطاء حكومي مباشر من رئيس مجلس الوزراء أو “إشبينها التشغيليّ النجيب”، على حدّ تعبير مرجع سياسي لبناني.
باتت معلومة عامة في لبنان أنّCMA :
1- فازت بعقد إدارة وتشغيل وصيانة محطة الحاويات في مرفأ بيروت لمدّة عشر سنوات، في شباط 2022، كعارض وحيد لا ثاني له.
2- ثمّ فازت عبر شركتين وُلدتا من رحمها أيضاً في آذار الفائت بقطاع الخدمات والمنتجات البريدية في لبنان من سلفها “ليبان بوست”، لمالكها السابق نجيب ميقاتي، بمزايدة كانت أيضاً هي العارض الوحيد فيها.
3- الشركة نفسها حصلت على تلزيم غامض في TMA (خدمات الشحن الجوّي)، ولم يمرّ على هيئة الشراء العامّ.
قانونياً فما قامت به CMA من “لفّ ودوران” للاستيلاء على الأسهم، لا يُعتبر مخالفاً. إذ إنّ أيّ شركة يمكنها أن تبيع أسهمها لشركة ثانية وللشركة الثانية أن تستكمل الأعمال بالعقد نفسه، ولا يتوجّب عليها أكثر من إبلاغ الجهات الرسمية المعنيّة
يسأل المرجع السياسي نفسه في سياق دردشة مع “أساس” حول التوسّعات الفرنسية في لبنان:
– كيف يمكن أن يتمّ تسليم النقل الجوّي والبحريّ إلى شركة واحدة؟
– والسؤال الأهمّ: كيف وصلت CMA إلى مرفأ طرابلس؟
ليس في الأرشيف الاستثماري والتشغيلي أيّ عقود أُبرمت مع شركة الأخوين سعادة في مرفأ طرابلس، حتّى إنّ بعض المعنيّين بالمرفأ وكثيراً من الموظفين لا يعرفون كيف وصلت الشركة إلى مرفأ طرابلس، لأنّ العقد الذي أُبرم في عام 2013 كان مع شركة “غالف تاينر” الإنكليزية وليس مع CMA.
البحث والتحرّي
بحث “أساس” في التفاصيل وعاد بالرواية الكاملة لكيفية استيلاء فرنسا على مرفأ طرابلس بعقد لخمس وعشرين سنة. فرنسا التي تحاول حلّ أزمة لبنان، وتحدِّثنا عن مصالح لبنان ورغبتها في مساعدتنا، لا تفعل إلّا الاستحواذ على مرافق بلادنا الحيوية قضمةً قضمةً ومرفأً مرفأً وداراً داراً و”زنغة زنغة”، لتقبض على أصول اللبنانيين الاستثمارية، مدفوعةً بغريزة تجارية – سياسية لا تمتّ إلى غريزة “الأمّ الحنون” بصِلة.
فماذا في التفاصيل؟
قبل عام 2013 كان مرفأ طرابلس “يتيماً، مهملاً، هجره أبناؤه من أصحاب المناصب واستهزأوا بإمكانيّاته”، كما يروي سياسي عتيق مطّلع على تفاصيل الملفّ لـ”أساس”. وذلك على الرغم من تعاقب “مليارديرين” طرابلسيَّين، هما ميقاتي ومحمد الصفدي، على وزارة الأشغال، وتبوّؤ نبيل الجسر، شقيق النائب السابق عن طرابلس سمير الجسر، رئاسة مجلس الإنماء والإعمار، ثمّ ميقاتي رئاسة ثلاث حكومات، والصفدي وزارة المالية… إلى أن جاء “ابن بيصور” إلى الأشغال، ويقصد هنا السياسي العتيق في حديثه وزير الأشغال الأسبق غازي العريضي.
يومئذٍ كان مرفأ طرابلس متوقّفاً عن العمل منذ ستّ سنوات تقريباً، وكان بإدارة شركة صينية هي ثاني أكبر شركة في الصين، ومن أكبر الشركات العالمية. لكنّ مشروع إعادة الحياة للمرفأ بقي طيّ الإهمال. وبجهود حثيثة من وزير الأشغال حينها ومبادرات مباشرة مع السفير الصيني لتحريك المشروع وإكماله، استُكمل بكلفة أقلّ بمليونَي دولار من الكلفة التي كانت مقرّرة، وذلك على الرغم من الدعاوى التي كانت عالقة مع الشركة في مجلس الإنماء والإعمار.
بالقانون… وليس على الطريقة اللبنانيّة
منذ ذلك اليوم، فُتحت العيون على طرابلس ومرفئها، الذي تتجاوز مساحته وقدرته التشغيلية مساحة وقدرات مرفأ العاصمة. في الفترة نفسها، يكمل الطرابلسي العتيق: “توجّه وفد من آل سعادة إلى منزل وزير الأشغال العريضي قائلاً: نريد مرفأ طرابلس. ولم يكن لدى العريضي أيّ مانع لأنّ CMA من أقوى الشركات العالمية، ومن الجيّد جدّاً أن تستثمر في المرفأ. لكن “بالقانون، وليس على الطريقة اللبنانية المقيتة أو الميقاتية”.
كان المطلوب حينها من آل سعادة التقدّم بمشروعهم وخطّتهم بشكل رسمي إلى وزارة الأشغال تمهيداً لدراسة الملفّ مع مجلس الوزراء ورئاسة الجمهورية، وبالتالي اتّخاذ المقتضى القانوني اللازم، بدلاً من زيارة رئيس الحكومة يومها نجيب ميقاتي و”التشكّي” على العريضي لأنّه لم يسهّل على آل سعادة الطريق.
ليس في الأرشيف الاستثماري والتشغيلي أيّ عقود أُبرمت مع شركة الأخوين سعادة في مرفأ طرابلس، حتّى إنّ بعض المعنيّين بالمرفأ وكثيراً من الموظفين لا يعرفون كيف وصلت الشركة إلى مرفأ طرابلس، لأنّ العقد الذي أُبرم في عام 2013 كان مع شركة “غالف تاينر” الإنكليزية
علم “أساس” أنّ الرئيس ميشال سليمان استدعى العريضي إلى بعبدا لاستيضاح الأمر الذي يبدو أنّ ميقاتي رفع الصوت من أجله. تزامناً، زار الوفد نفسه، من آل سعادة، المرفأ زيارةً قالوا إنّها “استكشافية بأمر من ميقاتي”. بالعربي المشبرح قالوا: “باعتنا ميقاتي”. فرفضت إدارة المرفأ حينها السماح لهم بالدخول لأنّه لا إذن رسميّاً لديهم بالزيارة صادر من الوزارة المعنيّة.
في الفترة عينها جاء مشروع الشركة الإنكليزية “غالف تاينر” في مرفأ طرابلس، عبر الوسيط التجاري أنطوان عمّاطوري. فرفضت وزارة الأشغال التعامل مع الوسيط ووقّعت مع الجانب البريطاني مباشرة في عام 2013 وبعقد لمدّة 25 سنة، “وتمّ الإعلان عن العقد يومها في احتفالية كبيرة تسابق ميقاتي والصفدي على حمل لوائها من دون أيّ جهد”. وانطلق المرفأ، وبدأت تظهر بوادر الإنتاجية والإنجاز. وخلالها استعرت الحرب في سوريا وتفتّحت العيون أكثر على مرفأ طرابلس بعد إقفال الحدود البرّية واللجوء للمرفأ كحلّ شبه وحيد لتصريف الإنتاج الزراعي اللبناني بسبب الكلفة المرتفعة للنقل الجوّي، “حتّى إنّ سعد الحريري حاول وضع اليد على المرفأ عبر موفده نادر الحريري يومها”، كما يؤكّد مصدر لصيق بوزارة الأشغال وملفّ مرفأ طرابلس.
بعدها بأشهر قليلة “دخل” نجيب ميقاتي إلى “غولف تاينر” عبر عمّاطوري، وبدأت هذه الشركة تبيع أسهمها، فيما بقيت هي الجهة المشغّلة مع تملّك نسبة محدودة، إلى أن أنشأت شراكة مع “M1 Group”، وتمّ إدخال CMA إلى المرفأ فاستحوذت على كلّ الحصص خلال أقلّ من سنة تحت اسم CMA Tripoli . “يعني من هالك لمالك لقبّاض الأرواح”، يقول المصدر ساخراً في حديثه إلى “أساس”.
الاستيلاء على المرفأ
أمّا قانونياً فما قامت به CMA من “لفّ ودوران” للاستيلاء على الأسهم، لا يُعتبر مخالفاً. إذ إنّ أيّ شركة يمكنها أن تبيع أسهمها لشركة ثانية وللشركة الثانية أن تستكمل الأعمال بالعقد نفسه، ولا يتوجّب عليها أكثر من إبلاغ الجهات الرسمية المعنيّة.
بدورها تخبرنا مصادر مرفأ طرابلس عن “فرحتها” بالعمل مع CMA ، “ثالت أكبر شركة في العالم”. وتؤكّد لـ”أساس” أنّ العقد الذي مدّته 25 سنة هو عبارة عن تلزيم أعمال المناولة (ستّ حركات من تنزيل ورفع الحاويات، حصّة الدولة من رسوم هذه الحركات 25% وحصّة الشركة 75%).
تبرّر المصادر ذلك بأنّ المعدّات جميعها تملكها الشركة. وتكشف أنّ الشركة منحت المرفأ قرضاً بقيمة 10 ملايين دولار من دون أيّ فوائد، تمّت الاستفادة منه في تنفيذ البنية التحتية في رصيف الحاويات وتمّ تسديده بالكامل للشركة من أرباح المرفأ. وترفض المصادر التصريح عن حجم الإيرادات وتشدّد على أنّها “ناجحة جدّاً”، وأنّ هناك “معدّات للشركة تقدّر تقريباً بـ 75 مليون دولار من أهمّ المعدّات في هذا المجال، ومنها معدّات جديدة بقيمة 25 مليون دولار تمّ شراؤها العام الفائت. وتقوم المعدّات بتشيغل 30 حركة في الساعة مضاعِفةً أرباح المرفأ، لا سيّما أنّ رسومه الخالصة لا يتشاركها مع الشركة في حركات أخرى”. فحوالي 22 سفينة حاويات في الشهر يستضيفها المرفأ ويعمل في محطّة الحاويات مئات الموظّفين والعمّال.
إقرأ أيضاً: قائد الجيش فاسد؟… جان العليّة يكشف
هذا وتنكر المصادر نفسها رواية دخول CMA على خطّ المرفأ والاستيلاء على أسهم “غالف تاينر”، وتؤكّد أنّ هناك شراكة في الأساس بين الشركتين. وتغمز من قناة اهتمام CMA وغيرها بتشغيل المنطقة الاقتصادية الخاصّة في طرابلس المتوقّفة عن العمل، والتي لها أن تحرّك الاستثمارات والمشاريع الاستثمارية وتنشّط الحركة التجارية بزخم كبير في طرابلس.
هكذا يتبيّن كيف دخلت فرنسا، وما زالت تدخل، إلى عمق الثروات اللبنانية لاستثمارها، عبر الأخوين سعادة وشركائهما في السياسة والمصالح… لا خلاف على أنّ CMA CGM هي واحدة من أهم الشركات بالعالم في مجالها، لكن هل من المنطق أن يتم تسليم البلد، ببحره وجوّه ومراسلاته البريدية لشركة واحدة، فقط لأنّها “مهمة” و”كبيرة” وتجمعها علاقة أكثر من صداقة مع ميقاتي؟
هذه إشارات استفهام تتخطّى حدود الاستثمار وربما تصل إلى حدود الانتداب.