أطلق الرئيس أمين الجميّل في بداية عهده “مغامرة الإنقاذ”، في بلد قسّمته الحرب والاحتلالات الأجنبية. ثمّ عقّدت التطوّرات اللاحقة مساعي الحلّ، ولاسيما بعد فشل “مشروع (رونالد) ريغن للسلام” واضطرار واشنطن إلى الانسحاب من لبنان مع قوات الأطلسي، ثمّ اختيارها التفاوض مع سوريا، ممّا أفضى إلى انعقاد “مؤتمر جنيف” في 31 تشرين الأول 1983، “آخذاً في الاعتبار نفوذ سوريا في لبنان”.
إقرأ أيضاً: الرئيس الجميّل لـ”أساس” (1/2): أردتُ أن أقول حقيقتي و”الثقة” أساس الحكم
تغيّرت الظروف وتبدّلت أسماء اللاعبين، لكن لبنان الذي كان ساحة صراع / تفاوض بين أميركا وسوريا في ظلّ “الحرب الباردة”، يعيش اليوم، وعلى نحوٍ دراماتيكي، تبعات المواجهة الإيرانية الأميركية. ويتردّد أنّ التفاهم الأميركي السوري بعد “حرب الخليج الأولى”، الذي أدّى لتكريس نفوذ سوريا في لبنان، مرشّح للتكرار اليوم بتفاهم بين واشنطن وطهران سيؤدّي إلى “شرعنة” نفوذ إيران في لبنان.
سواء صحّ ذلك أو لا، فإنّ لدى “الشيخ أمين” ما يقوله في هذا الصدد انطلاقاً من تجربته وقراءته للواقع… فضلاً عن ذلك يتحدّث “الرئيس المقاوِم” عن اقتراحه لحلّ الأزمة السياسية، وعن “الطائف”… وفي الآتي الجزء الثاني من حوار “أساس” معه.
يدعو الرئيس الجميّل إلى حوار بنّاء بين أميركا وإيران في لبنان تماماً كما حصل بين واشنطن ودمشق إبّان عهده. يقول: “طيلة فترة ولايتي ما انقطعت علاقتي مع السوريين. فقد بقيت أكثر من شعرة معاوية مع الرئيس حافظ الأسد حتّى آخر يوم من عهدي. فلبنان بلد عربي وعلاقته بالعالم العربي ضروريّة. كذلك، فالعلاقة مع الأميركيين ليست ترفاً بل ضرورة. فمن يمون على إسرائيل غيرها؟ لذلك سعيت لإقامة توازن في العلاقات مع سوريا ومع أميركا في لبنان، ولا شك أنني نجحت في ذلك لأني صارحت الأميركيين بأني لن أقدم على أيّ قرار يقطع علاقات لبنان مع العالم العربي وسوريا”.
كُلّف غازي كنعان ضبط الوجود الإيراني في لبنان، أي حرّاس الثورة مع القيادة العسكرية.. لكن الإيرانيين المنظّمين والفاعلين شعروا في مرحلة معيّنة بنفوذ ذاتي يتفاقم، وبالتالي بدأت الخلافات وأحياناً الصدامات بين الحليفين
ويرى “أننا اليوم في حاجة إلى حوار بنّاء من هذا النوع مع أميركا وإيران. فنحن لسنا في حالة حرب مع أحد. ولا يمكن أن ندّعي أنّه لدينا الإمكانات لنعادي أحداً، لا إيران ولا روسيا ولا أميركا، ولا أيّ بلد آخر. وأنا كانت علاقاتي جيدة مع الإيرانيين وكنت تلقيت دعوة لزيارة طهران. فإيران دولة عظمى وكبيرة في المنطقة، فهل لنا مصلحة في معاداتها؟ طبعاً لا”.
لكنّ “الرئيس المقاوِم” لا ينفي أنّ “هناك خلافاً كبيراً مع إيران. لكن، وبالرغم من ذلك يفترض أن يكون هناك حوارٌ لتفادي تداعيات الصراع بين أميركا وإيران على أرض لبنان”.
يقول: “في العام 2011 عندما اندلعت الأحداث في سوريا، دعوت إلى أن لا نقحم أنفسنا في صراع أكبر منا، ولم يستسغ البعض كلامي هذا. فنحن لا علاقة لنا في الصراع داخل سوريا، كما أنّ لا علاقة لنا بالصراع بين أميركا وإيران”.
– نقل وزير خارجيتكم إيلي سالم عن وليد جنبلاط قوله في 1985: “الشيعة يريدون نظاماً جديداً برئاستهم وهذا امر خطير جداً”…
* (يضحك)… وليد بك يُكثر من هكذا تصريحات. من الواضح أنه لم يكن مرتاحاً لسياسة سوريا في لبنان ولمواقف حلفائها. قال في تصريح لوكالة الصحافة الفرنسية إنّه متكّل على وطنية أمين الجميل لإسقاط الاتفاق الثلاثي… ما كان واضحاً وقتذاك أنّ هناك جهة مجهولة المعالم تعمل على تقسيم البلد على أساس مذهبي وطائفي. كان هناك نوعٌ من تفكير سياسي عند البعض، شرقاً وغرباً، يعتبر أنّ لبنان لا يمكن أن يستمر بشكله الحاضر، وبالتالي لا بدّ أن يعاد تنظيمه على أساس كيانات طائفية ومذهبية مع إيجاد نوع من التواصل بينها عبر سلطة مركزية. كان المطلوب شرذمة لبنان، وهذا ما وقفت ضدّه”.
“الحرس الثوري“
عن قدوم الحرس الثوري الإيراني إلى لبنان صيف العام 1982، وما إذا اعتُبرت إيران وقتذاك لاعباً سياسياً مستقلاً عن سوريا، يقول: “إيران هي إيران وسوريا هي سوريا. لكلٍّ منهما مصالحه وطروحاته في لبنان والمنطقة. دخول الحرس الثوري إلى لبنان تمّ بموجب اتفاق مكتوب بين سوريا وإيران، وقد كُلّف غازي كنعان ضبط الوجود الإيراني في لبنان، أي حرّاس الثورة مع القيادة العسكرية.. لكن الإيرانيين المنظّمين والفاعلين شعروا في مرحلة معيّنة بنفوذ ذاتي يتفاقم، وبالتالي بدأت الخلافات وأحياناً الصدامات بين الحليفين.. والسيّد حسن نصرالله عبّر لي في أحد اجتماعاتي معه عن تلك الخلافات والإشكالات”.
يضيف: “حتّى الآن، هناك عنصران على الساحة اللبنانية، الإيراني والسوري، وكلّ منهما لديه منطلقاته. فحركة “أمل” ليست ولاية الفقيه ناموسها، بينما حزب الله يتبعها. لكن في النهاية. وعلى الصعيد الاستراتيجي، هما مع بعضهما البعض بما يتجاوز الأيديولوجيا”.
“البرنامج المرحلي”
– هل لبنان متجه إلى “تطوير” نظامه السياسي؟ وهل هذا ممكن في ظلّ “السلاح”؟
*”تطوير النظام ضروري بمعزل عن موضوع سلاح حزب الله. لا بد من “برنامج مرحلي” لحلّ الأزمة السياسية، إذ من المفروض أن ننكبّ على دراسة حلول للمشكلة اللبنانية المعقّدة وذات الأبعاد المتعدّدة. ففي الخمسينات، كان ولاء بعض اللبنانيين للرئيس جمال عبد الناصر. وفي الستينات لأبو عمار. وفي الثمانينات لحافظ الأسد، والآن لولاية الفقيه. فمتى نتفق على الولاء الكامل للبنان وقضاياه؟ هذا هو المدخل الرئيس للسلام اللبناني والاستقرار. وفي كلّ مرة، كان اللبنانيون يتمكّنون من تجاوز هذه العقدة ويتفقون فيما بينهم على ما ينقذ البلاد. فهل يمكننا في الوضع الراهن أن نتفاهم حول مصلحة لبنان؟”.
– برأيكم اتفاق الطائف ما استطاع أن يحلّ هذه العقدة؟
*”هذا موضوع دقيق لأنه يثير حساسيّة لدى فريق لبناني يعتبر أنّ الطائف بمثابة إنجيل أو قرآن. أنا لديّ بعض التحفّظ على بعض بنود اتفاق الطائف الذي هو اليوم الدستور والقانون، وهناك تفاهم وطني عليه. لكنّه أيضاً بحاجة إلى إعادة قراءة لجهتين: فمن جهة لا ننسى أنّ الطائف الذي كان هدفه إصلاح النظام اللبناني عقّده أكثر. والدليل، كلّ الخلافات الحادة التي تحصل حول تفسير وتطبيق النظام الجديد، ماذا بقي من النظام؟ من جهة ثانية، لا ننسى أنّ هناك جانباً في الطائف له علاقة بالسيادة، ولا سيما العلاقات مع سوريا. فحتّى اليوم ما يزال المجلس اللبناني السوري قائماً. فما هي فائدته؟ لذلك الطائف يحتاج إلى إعادة قراءة بهدوء ورصانة. ربّما كان هو المنّ والسلوى للبعض، لكنّ نتيجته لم تكن على قدر توقّعات اللبنانيين”.
يعود “الرئيس الجميل” إلى المرحلة الثانية من “البرنامج المرحلي” والمتصلة بـ”موضوع السلاح الذي يعوق المشروع الوطني”… يقول: “هذه مسألة معقّدة وليس من السهل التعاطي معها. لذلك علينا أن ننجز المرحلة الأولى المتصلة بالنظام السياسي، ويكون هناك توافق عليها بمعزل عن موضوع السلاح، وفي الوقت نفسه نفكّر في موضوع السلاح. ويكون في مرحلة ثانية حوار جدّي ومسؤول مع حزب الله لإقناعه بأنه لا يستطيع إذا كان مهتماً بمصلحة لبنان ووحدته وبمصلحته بالذات أن يتمسّك بسلاحه إلى ما شاء الله. فهذا أمر لا يستقيم ولا يسمح بقيام الدولة. وإذا سقطت الدولة، فحزب الله لن يكون رابحاً. فهو جزء من هذه الدولة، فإذا سقطت، فذلك سيؤثر على وجوده ومصالحه ومستقبله”.
أقنع الرئيس عبد الناصر الرئيس شهاب أنّ ظروف المنطقة لا سيما الصراع العربي الإسرائيلي تقتضي تعاوناً واسعاً بين لبنان ومصر
يتابع: “لذلك في مرحلة من المراحل يفترض أن نصل بهدوء وترفّع إلى تفاهم مشترك حول موضوع السلاح، فنحمي وحدة البلد وسيادته وقراره الحرّ. وفي الوقت نفسه، نحافظ على حماية لبنانية بوجه الأطماع الإسرائيلية أو غيرها”.
هنا يستذكر “الشيخ أمين” “لقاء الخيمة” الذي جمع الرئيسين فؤاد شهاب وجمال عبد الناصر على الحدود اللبنانية السورية في العام 1959، و”كان لقاءً نديّاً والاحترام متبادل” ما سمح بـ “إعادة تركيب البلد” – بعد أحداث سنة 1958 وضغوطات الجمهورية العربية المتحدة- “كما أفسح في المجال لحوار صادق وفعّال بين الأطراف اللبنانية، وساهم في تعزيز الوحدة الوطنية ومستلزمات السيادة، كما في بناء دولة عصرية وإطلاق حوكمة رشيدة وضعت لبنان في طليعة العالم العربي بالسياسة والإنماء”.
يقول: “في تلك الفترة كان وضع الناصرية في لبنان شبيهاً بوضع حزب الله اليوم. ويسأل: “هل نستطيع أن نعود إلى منطق الخيمة اليوم؟”.
– من يُفترض أن تجمع الخيمة اليوم؟
*لن أدخل في التفاصيل. الرئيس شهاب أقنع الرئيس عبد الناصر أنّ مصلحة مصر في أن يكون لبنان حليفاً حرّاً لها، بينما أقنع الرئيس عبد الناصر الرئيس شهاب أنّ ظروف المنطقة لا سيما الصراع العربي الإسرائيلي تقتضي تعاوناً واسعاً بين لبنان ومصر. هذا كان العقد العربي بين لبنان ومصر. وهو ما أنقذ لبنان، ووضعه على سكّة الحداثة. هل يا ترى نستطيع اليوم أن نصل إلى منطق الخيمة”.
“الوقاية الداخلية”
لا يتخوّف الرئيس الجميّل من حرب لبنانية – لبنانية، “يمكن أن تحصل اختراقات. لكن بصورة عامة، لا أعتقد أنّه ثمة مخاوف من حرب أهلية. لكن خوفي أن يحصل حدث في المنطقة يفرز الوضع اللبناني من جديد كما حصل وقت اندلاع الحرب السورية، حيث انتصر فريق لبناني لفريق سوري معيّن، بينما أيّد فريق لبناني ثان طرفاً سورياً آخراً”.
– حرب بين إسرائيل و”حزب الله”؟
*هذا احتمال وارد أكثر من غيره.
في المقابل يرى الرئيس الجميّل أنّ “التسوية الإقليمية” حاصلة لا محالة، لكن متى؟ يقول إنّ “حيّاً لا ينتظر حيّاً. يمكن أن تحصل بعد 10 سنوات ويمكن بعد 100 عام. هناك صراع أيديولوجي وميتافيزيقي طويل عريض في المنطقة”.
ولذلك لا يرى التسوية السياسية الاقليمية قريبة، و”هو ما يوجب علينا تأمين وقاية داخلية، عبر السعي إلى تنفيذ برنامج مرحلي يؤدي في مرحلته الأولى إلى لملمة وضعنا الداخلي، ثمّ نجلس على الطاولة مع حزب الله ونحكي”.
– ألا يستطيع الحكم الحالي القيام بذلك؟
*”لو بدا تشتي غيّمت…. مطلوب جهد يفوق قلب قدرة العهد الحالي على تحقيقه. حكم لبنان يستوجب قلباً كبيراً، وإلّا لا تستطيع أن تحكمه”.
– هل كان السير بالعرض “الأميركي- السوري” بانتخاب مخايل الضاهر رئيساً للجمهورية في العام 1988 أفضل…
* لكل ظرف أحكامه. وليس بالإمكان إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. فالطموحات والضغوطات والمصالح السورية المفرطة كانت في أوجها ودمشق تعتبر أنّه آن الآوان لقطف ثمار جهودها في لبنان ووضع اليد على رأس الهرم. كانت تريد أن تستخدم الانتخابات الرئاسية لتطوّع نهائياً كلّ النظام اللبناني.