الرئيس الجميّل لـ”أساس” (1/2): أردتُ أن أقول حقيقتي و”الثقة” أساس الحكم

مدة القراءة 9 د


لا يفضي الدرج القديم إلى بهو سرايا بكفيا وحسب، إنمّا إلى التاريخ أيضاً: تاريخ الإمارة اللبنانية الذي شهد بناءها، وتاريخ الرئيس أمين الجميل وجعلها مقرّاً رئاسياً صيفياً في الثمانينات ثمّ  مركزاً لـ”بيت المستقبل” منذ أيار 2015. مبعوثون دوليين كثر زاروا السرايا ووردت إليها مئات “الرسائل” السورية، وكلّها محفوظة فيها. أمين الجميل، إبن البيت السياسي الذي  كان لعقود شاهداً ومشاركاً في الأحداث اللبنانية، حفظ أرشيفه المؤلف من مئات ألوف الأوراق، كاملاً وممكنناً. كما دأب “الشيخ أمين” على كتابة يومياته منذ أوّل يوم له في قصر بعبدا. وهو وإن كتبها بالفرنسية لكنّها تروي أحداثاً لبنانية وعربية في مرحلة كان لبنان خلالها مختبراً للتوازنات العربية والدولية، تماماً كما هو اليوم. لقد تبدّل بعض اللاعبين الإقليميين والعرب والدوليين على “الساحة” اللبنانية، لكنّ الحقائق الجيوسياسية اللبنانية ثابتة إلى حدّ بعيد. وما كان يسري على لبنان في الثمانينات لجهة وقوعه على فالق “الحرب الباردة” يسري الآن عليه وهو على فالق الصراع الأميركي – الإيراني. كذلك فإنّ عهد الرئيس الجميل شهد أزمة إقتصادية وتدهوراً في قيمة العملة الوطنية على غرار ما يحصل الآن، مع فارق أنّ الدين العام في النصف الثاني من الثمانينات كان صفراً وأنّ “الحكم كان موثوقاً”.

إقرأ أيضاً: بكركي “الثائرة”: الراعي يستعيد مجد حماية لبنان

كلّ ذلك يجعل الحوار مع الرئيس الثامن للجمهورية اللبنانية بعد الإستقلال مهمّاً لناحيتين: الأولى أنّ إصداره كتاب “الرئاسة المقاوِمة” في 26/6/2020 الذي يروي مذكراته يعدّ مناسبة لاستعادة تجربته في الحكم. والثانية أنّ “التشابه” بين الظروف الجيوسياسية والاقتصادية بين الثمانينات والآن، يحفّز على المقارنة بين كيفية إدارة الحكم وقتذاك للأزمة، وبين كيفية إدراة الحكم الحالي للأزمة الراهنة.

قال الجميّل في ندوة إطلاق كتابه إنّ حكومته الأولى برئاسة شفيق الوزان كانت مستقلّة مئة في المئة تمثل المجتمع المدني ولا تمثيل حزبياً فيها على الإطلاق

لذلك قسمنا المقابلة قسمين: الأوّل يتطرّق إلى مضمون الكتاب و”ظروفه”، كما يطلّ على تجربة حكومة عهد الجميّل الأولى “المستقلة مئة في المئة”، وكذلك على الحوارات التي دعا إليها خلال ولايته و”لم يغب عنها أحد”، ناهيك بـ “قانون الذهب”. والثاني يتطرّق للظروف السياسية في عهده خصوصاً لجهة التجاذب الأميركي – السوري، وقدوم الايرانيين إلى لبنان وتنظيم وجودهم فيه بورقة مكتوبة مع السوريين. ثمّ يتحدّث “فخامة العنيد” عن اتفاق الطائف و”البرنامج المرحلي” لحلّ الأزمة اللبنانية. وفي الآتي القسم الأول من المقابلة:

– لماذا تنشرون مذكراتكم الآن؟

“هذا الكتاب استغرق العمل على إنجازه وقتاً طويلاً وكنت قد بدأت التحضير له عندما كنت في باريس، وكتبته بدايةً باللغة الفرنسية لكن لم يؤاتِ الظرف لنشره، ثمّ حين عودتي إلى بيروت ترجمته إلى العربية. أهمّ شيء في الكتاب هو الوثائق التي يتضمّنها والتي لم تكن كلها بحوزتي في باريس إنّما حفظ معظمها في بيروت، ولذلك كانت تلزمني ليكون للكتاب وقع وصدقية وليكون كلامي فيه مسنداً بوثائق صحيحة. لقد تأخّرت لكي أراجع أرشيفي، ثمّ مررنا بظروف صعبة جدّاً ما حال دون إصدار الكتاب قبلاً”.

يشدّد الجميّل على أهميّة المستندات الموجودة في “الرئاسة المقاوِمة” ويعتبرها بمثابة تاريخ يُخبر الحقبة المهمّة التي تولّى خلالها سدّة الرئاسة، علماً أنّ الوثائق مقسمّة إلى ثلاثة أجزاء: “يومياتي إذ كنت كل يوم أكتب انطباعاتي وخواطري، ثمّ محاضر الاجتماعات لاسيما مع السوريين والأميركيين والمسؤولين العرب، وأخيراً التقارير التي كانت تصلني وكلّها موثقة في بيت المستقبل الذي حفظ  أرشيفي كاملاً وممكنناً”.

لم تراوده أبداً فكرة عدم كتابة مذّكراته، “فقد كنت مصمّماً أن أنشر حقيقتي المجرّدة والموثّقة لأن كلّ الناس حَكت عن أمين الجميّل وعهده وكلٌّ حكى على هواه من منطلق أفكاره ومشاعره ومواقفه، ومعظم الكلام جانب الحقيقة، لذلك اعتبرت أن عليّ أن أقول حقيقتي وهي مسندة إلى مستندات ووقائع ثابتة”.

وعمّا إذا كان قد تكتّم على أسرار ومعلومات في الكتاب، يقول “فخامة العنيد” إنّ أرشيفه المؤلف من مئات آلاف الأوراق، سواء يومياته أو المحاضر أو التقارير، “أرشيف ضخم لا أستطيع أن أضعه كلّه في كتاب. أخذنا الخلاصة وما ذكرته لا يمثّل إلا جزءاً ضئيلاً من أرشيفي. أفكّر في أن أنشر يوماً ما يومياتي على حدة وفي مجلّدات عدّة لأنها متضمنة لحقائق وأحداث سياسية مهمّة. لذلك إذا كان من نواقص في الكتاب فليس لأني أحاول أن أخفي أموراً معينة، لكن كانت هناك استحالة أن أورد كل شيء. لقد ذكرنا ما اعتبرت أنه مفيدٌ في المرحلة الراهنة”.

هنا يخرج “الشيخ أمين” من قاموسه السياسي مفهوماً يعتبره مفتاحياً لـ”العمل الوطني على صعيد الحكم”، وهو “الحوكمة الرشيدة” التي تقتضي تعزيز المؤسسات الرقابية

قال الجميّل في ندوة إطلاق كتابه إنّ حكومته الأولى برئاسة شفيق الوزان كانت مستقلّة مئة في المئة تمثل المجتمع المدني ولا تمثيل حزبياً فيها على الإطلاق. نسأله عن رأيه في الحكومة الحالية. وهل يمكن أن تستمر؟ يجيب: “أوّل عهدي كان هدفي الوحدة الوطنية بعد الاجتياح الاسرائيلي. لذلك لم اعتمد أنصاف الحلول، أي تشكيل حكومة تكنوقراط مطعّمة سياسياً في الوقت عينه على غرار الحكومة الحالية. أردت حكومة تمثّل حصراً المجتمع المدني ومعبرة عن هموم الشعب. يجب أن يكون واحدنا أميناً مع نفسه ولا يغشّ الناس، كأن يشكّل حكومة تكنوقراط وفي الوقت نفسه يأتي بممثلين لقوى سياسية، كتائبية وغيرها. لذلك اخترت لحكومتي الأولى نقيبي محامين هما روجيه شيخاني وعصام خوري ونقيباً للمهندسين هو بهاء الدين البساط وكلهم يتمتعون بشرعية نقابية ولم يهبطوا بالباراشوت، وناشطاً اجتماعياً كبيراً من الجامعة الأميركية في بيروت هو الدكتور عدنان مروة ومهندساً معمارياً عالمياً هو بيار خوري… إلخ”.

وفي انتقاد غير مباشر للحكومة الحالية، يشير “الرئيس المقاوِم” إلى أنّ حكومته الأولى “كانت من أنشط الحكومات في تاريخ لبنان، إذ أعدّت ما يزيد عن المئة مرسوم اشتراعي في مضمار الاقتصاد والمال والقضاء والقانون والتربية وكلّها لم تزل قائمة حتّى اليوم. ولربما من أهم الإنجازات، رفع شعار “ديمقراطية التعليم” وذلك بإنشاء الكليات التطبيقية في الجامعة اللبنانية أي: كليات الطب والهندسة وطب الأسنان والصيدلة، لكي لا  يكون التحصيل العلمي الرفيع حكراً على الأغنياء وعلى الجامعات الأجنبية ذات الأقساط الغالية”.

هنا يخرج “الشيخ أمين” من قاموسه السياسي مفهوماً يعتبره مفتاحياً لـ”العمل الوطني على صعيد الحكم”، وهو “الحوكمة الرشيدة” التي تقتضي تعزيز المؤسسات الرقابية كالتفتيش المركزي والخدمة المدنية وديوان محاسبة وغيرها. ويقول: “من أسباب الأزمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الحالية  فقدان مستلزمات الحوكمة الرشيدة. لقد تلاشت عناصرها. في عهدي أتينا بخيرة الأشخاص إلى الإدارة العامة. اليوم مجلس الخدمة المدنية غير فعّال، والتوظيف سياسيّ من فجّ عميق، الغرضية والمحسوبيات شائعة والتفتيش المركزي معطّل ويشتغل بعشرين في المئة من كوادره”.

يضيف: “عندما زرت الرئيس ميشال عون فور انتخابه قلت له: لا أريد أن أوصيك بشيء، فأنت خير المطّلعين، لكن عندي شعور شخصي أقوله لك، فإذا أردت أن تحمي عهدك فعّل المؤسسات التي تضمن الحوكمة الرشيدة..لكن للأسف حصل العكس ورأينا التوظيف العشوائي والتلزيمات العمومية من خارج دائرة المناقصات وهلمّ جرّ”.

-هل تستمر هذه الحكومة برأيكم؟

“الفراغ يمكنه أن يستمر”،

قال الرئيس الجميل في الندوة المذكورة إنّه دعا خلال عهده إلى مؤتمرات مصالحة وحوار عدّة لم يغب عنها أحد، وهو ما فهم أنّه غمز من قناة الرئيس عون الذي دعا إلى “اللقاء الوطني” في 25 حزيران الماضي، لكنّ قيادات أساسية غابت عنه، نسأله عن السبب، هل شخصية الرئيس أو تاريخه، أم الظروف السياسية؟ يقول: “الأمر لا علاقة له بأي اعتبارات شخصية، فنحن نحترم رئيس الجمهورية كموقع شرعي أيّا يكن شاغله. لكن موقفي من هذا الاجتماع كان موضوعياً وليس انفعالياً أو سياسياً، لأنّ اجتماعاً من هذا النوع إن لم يكن له جدول أعمال واضح فهو بلا فاعلية. كان يجب إعداد ورقة عمل تشكّل، بالحد الأدنى، إطاراً سياسياً لهذا اللقاء. فالعنوان الذي وضع له كان عاماً لدرجة أنني ما اعتبرت أن ثمة جدوى من مشاركتي فيه، فأين مشكلة السلم الاهلي في البلد؟ الصدامات الأخيرة في الشارع كانت مصطنعة ومفتعلة ولا علاقة لها بالسلم الاهلي. في عهدي كانت الحوارات كلّها مجدولة وكنّا نعدّ ورقة عمل تشكّل إطاراً للبحث”.

بالانتقال إلى الأزمة المالية، نسأله عن الدافع لإقرار “قانون الذهب” في العام 1987 الساري المفعول، والذي يمنع التصرف باحتياطي الذهب دون موافقة مجلس النواب، فيستعيد الظروف الإقتصادية والمالية في عهده و”الشبيهة” بالظروف الحالية، “مع فارق أنّ الدين العام في عهدي كان صفراً، لكن تبعات الاجتياح الاسرائيلي وخروج “السلطة الفلسطينية” من بيروت آخذةً معها أموالها الضخمة التي كانت مودعة من قبلها في البنوك اللبنانية بالعملة الصعبة، شكّلا ضغطاً كبيراً على العملة الوطنية، لكن على الرغم من ذلك تمكّنا من ضبط الأمور وعادت الليرة لتستعيد قيمتها تدريجاً. وكلّ ذلك لأنّ الحكم بقي موثوقاً لبنانياً وعربياً ودولياً. فالثقة أساس الحكم. وظلّت الحكومة تعمل وتتعاون مع العالم كله. كانت هناك ثقة بالحكومة لا بأمين الجميّل وحده. ويسأل: هل هذه هي الحال اليوم؟”.

يضيف: “في موضوع احتياطي الذهب الذي يعدّ بمثابة بوليصة تأمين لمستقبل الأجيال اللبنانية، فقد كانت هناك خشية من أن يُهدر ويذهب ضحية المرحلة، كأن نضطر تحت ضغط الأزمة  أن نسيّله أو نبيع قسماً منه. لذلك اتفقت مع رئيسي الحكومة والبرلمان سليم الحص وحسين الحسيني أن نقرّ قانوناً يمنع التصرّف بالذهب إلّا بعد موافقة مجلس النوّاب. ولو لم نفعل ذلك لكان تمّ تبديد هذا الاحتياطي ربّما”.

مواضيع ذات صلة

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…

الليلة الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”..

تحملُ ليلة هروب رئيس النّظام السّوريّ المخلوع بشّار حافظ الأسد قصصاً وروايات مُتعدّدة عن تفاصيل السّاعات الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”، قبل أن يتركَ العاصمة السّوريّة دمشق…