سيتعيّن على اللبنانيين، بعد الاجتماع الثاني لـ”اللجنة الخماسية” المعنيّة بشأن لبنان، الذي انعقد في 17 تموز في الدوحة، أن يعودوا إلى سماع اللازمة التي لطالما ردّدتها الدول المهتمّة بحصول اختراق ما في الانسداد السياسي الذي يحول دون ملء الفراغ الرئاسي منذ تسعة أشهر: انتخاب رئيس الجمهورية شأن داخلي لبناني، “وعلى الفرقاء أن يتعلّموا انتخاب رئيس للبلاد بأنفسهم من دون أن ينتظروا الخارج”.
صحيح أنّ تكرار الدول هذا الموقف هو لزوم المواقف الدبلوماسية المبدئية، لأنّه في أقصى الحالات، حتى لو كان اسم الرئيس موحى به من الخارج، لا تفصح أيّ دولة عن اختيارها لهذا الاسم الرئاسي أو ذاك، لكنّ تكرار هذا الموقف في الآونة الأخيرة يعود إلى سببين:
1- تغلغل “التعب من لبنان” Lebanon fatigue))، إلى الدوائر الدبلوماسية المكلّفة من قياداتها العليا البحث عن حلول لأزمته. حتى خليّة الأزمة التي شكّلها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للبنان، أخذ بعض أعضائها، قبل تعيين وزير الخارجية السابق جان إيف لودريان موفداً رئاسياً، يعبّر عن شعوره بإضاعة الوقت جرّاء صرفه الجزء الأكبر من جهده على الاهتمام بأزمة الشغور الرئاسي، من دون نتائج عمليّة، بينما لديه اهتمامات أخرى لا تقلّ أهميّة لمصالح فرنسا الخارجية.
لم تشأ أيّ من الدول الخمس تظهير الخلاف علناً مع باريس، متّكلة على رفض القوى اللبنانية الوازنة لخيار فرنسا. ومن باب استمرار احترام اندفاعتها لإيجاد الحلول للبلد المأزوم إلى أن يحين ظرف إنضاج هذه الحلول، اكتفت بإبلاغ اعتراضها إلى دوائر قليلة وضيّقة في لبنان، وفي الخارج.
أولويّة معالجة تباينات الدول الخمس
2- لم يخرج اجتماع الدوحة باقتراحات عمليّة محدّدة في شأن ترشيح اسم للرئاسة ولا في غيره من الأفكار التي طُرحت قبل انعقاده، مثل الدعوة إلى حوار بين الفرقاء اللبنانيين، سواء في البرلمان اللبناني أو في الدوحة أو غيرها. بل ركّز على معالجة التباينات في المقاربات بين الدول الخمس المجتمعة، التي بقيت تجرجر منذ الاجتماع الأول في 6 شباط الماضي في باريس، حين طرحت الأخيرة فكرة المقايضة بين الرئاسة الأولى ورئاسة الحكومة، أي معادلة سليمان فرنجية – نواف سلام، ولم يقبل بها ممثّلو الدول الأربع الأخرى كلٌّ على طريقته.
بعد أشهر على إنشائها هذا الإطار التنسيقي حول لبنان دعمت الدول الخمس استمرار مبادرة فرنسا لأنّها الوحيدة التي خصّصت وقتاً وكلّفت فريقاً رئاسياً لأزمة لبنان مع تفهّم العواصم الأخرى للعلاقة الخاصّة لباريس مع لبنان من جهة، ولأنّ لهذه الدول أولويات أخرى غير لبنان، من دون أن يعني ذلك التسليم الكامل بما يسعى إليه الجانب الفرنسي.
لقد بات معروفاً أنّ واشنطن لم توافق على فكرة المقايضة الفرنسية، منذ البداية، وأنّ الرياض لم تكن معها تحت شعار “لا فيتو على أحد ولا مرشّح لدينا والأمر منوط بما يقرّره اللبنانيون”، وأنّ العاصمتين استخدمتا شعار “عدم التدخّل في تسمية الرئيس”، للتعبير عن معارضتهما. فيما أيّدت قطر موقفَيْهما، خصوصاً أنّها مالت منذ البداية إلى خيار قائد الجيش العماد جوزف عون تراجعت، وكذلك مصر.
لم تشأ أيّ من الدول الخمس تظهير الخلاف علناً مع باريس، متّكلة على رفض القوى اللبنانية الوازنة لخيار فرنسا. ومن باب استمرار احترام اندفاعتها لإيجاد الحلول للبلد المأزوم إلى أن يحين ظرف إنضاج هذه الحلول، اكتفت بإبلاغ اعتراضها إلى دوائر قليلة وضيّقة في لبنان، وفي الخارج.
إذاً كان لاجتماع الدوحة وظيفة أخرى غير اقتراح حلول محدّدة للمأزق السياسي اللبناني، وهي ترتيب العلاقة بين أعضاء هذا النادي الخمسة، باستعراض أفكار جديدة، ووضع منهجية تنسيق مع الدولتين اللتين تميّزتا بدينامية التوسّط والمبادرة، أي فرنسا وقطر، مع الفرقاء اللبنانيين. والنتيجة أنّه لا يمكن لأيّ دولة، على الرغم من تأثيرها ومصالحها في لبنان، أن تنفرد بالحلول التي تحتاج إلى إجماع فيما بينها.
لودريان حضر أساساً بتوجّهات مختلفة
يقول مسؤول لبناني رسمي لـ”أساس” إنّ فرنسا التي اقترحت تجديد الاجتماع الخماسي، جاءت إلى الدوحة بتوجّهات مغايرة للأفكار التي سبق أن طرحتها. ويُنقَل عن مسؤول فرنسي رفيع تأكيده له أنّ تعيين الرئيس ماكرون للودريان موفداً له إلى لبنان في 7 حزيران الماضي، جاء وفق تقويم لِما آلت إليه المبادرة الفرنسية، واستناداً إلى ثلاثة مبادئ:
1- أن يصبح لودريان هو الوحيد المسؤول عن ملفّ لبنان، وهو ما يعني أنّه قد يتشاور مع الفريق الدبلوماسي الذي كان في خليّة الأزمة التي سبق لماكرون أن شكّلها من المستشار الدبلوماسي الأول في الرئاسة السفير السابق في بيروت إيمانويل بون، مستشار الرئيس لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا باتريك دوريل، ورئيس جهاز المخابرات الخارجية السفير السابق في بيروت برنار إيمييه، لكنّ الخيار يعود له في أيّ اقتراحات.
2- ليس لدى باريس أيّ مرشّح، ولا تدعم أحداً من المرشّحين.
3- أن يحاول لودريان الدعوة إلى حوار بين الفرقاء لأنّ الحوار مفقود.
لم ترتقِ الدول الخمس من رفض فرنجية إلى التفاهم على اسم بديل، وهو ما يفسّر إمكان تأجيل اجتماعها مجدّداً إلى آخر الصيف أو مطلع الخريف. وفي الانتظار لا بأس بالتلهّي بمقولة أنّ على اللبنانيين أن ينتخبوا رئيساً بقرار داخلي ليس متوفّراً
الحوار بقي فكرة مؤجّلة خشية الفشل
أولويّة ترتيب العلاقات بين “الخمسة” جعلت اقتراحاً عملياً مثل الدعوة إلى الحوار التي راودت باريس خصوصاً، والدوحة ثانياً، يُحال إلى مرحلة لاحقة في اجتماع الدوحة. إذ إنّ الجانبين السعودي والأميركي أشارا إلى أنّ اعتراض فرقاء لبنانيين على هذه الدعوة، ولا سيما في المعارضة، يؤسّس لفشلها. واستشهد الجانب الأميركي بتصريحات صادرة، ومحاولات جرت في هذا المجال لم تلقَ تجاوباً بحجّة أنّ الأولوية لانتخاب رئيس يقود هو الحوار.
مع أنّ لودريان طرح الفكرة وفق تسريبات مصادر الاجتماع الخماسي، فإنّ المعطيات التي سبقته من باريس تبيّن أنّ الأخيرة تداولت المبدأ استناداً إلى جولة المشاورات الأولى التي قام بها لودريان في لبنان، وإلى مناقشات في باريس نفسها بين وجهة نظر ترى في الحوار فائدة في كلّ الأحوال في ظلّ انقطاعه، وبين أخرى تتساءل عن مدى إنتاجيّته في ظلّ استمرار التباعد بين القيادات اللبنانية. لذلك لم يكن صعباً على لودريان في الدوحة أن يتخلّى عن الفكرة التي يلحّ عليها “الثنائي الشيعي”، بعدما وجد أنّ الدول الأخرى لا تراها مثمرة راهناً.
انقسام لبنانيّ في التعامل مع بيان الدوحة
في ما يخصّ الأفكار العمليّة الأخرى، وعلى الرغم من التسريبات بأنّ الجانب المصري اقترح خيار قائد الجيش العماد جوزف عون كمخرج من المأزق، فإنّ تجنّب الأميركيين والسعوديين الانخراط في الأسماء لا يساعد على الاسترسال في طرحها.
ما خلص إليه اجتماع الدوحة أدّى إلى ظهور الانقسام اللبناني على هويّة الرئيس المقبل ومهمّاته في ردود الفعل على نتائج اجتماع الدوحة. فرقاء المعارضة من السياديين رأوا فيه انعكاساً لمواقفهم. وانطلق منه رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع لتكرار مطالبته رئيس البرلمان نبيه برّي بأن يدعو إلى جلسة انتخابية جديدة. وفرقاء “الممانعة” وجدوا فيه انحيازاً ضدّهم، وإن لم يجاهر الفريق الرئيسي، أي الحزب، بهذه القناعة، حفظاً لخيوط التواصل مع الجانبين الفرنسي والقطري. فالتواصل بين السفارة الفرنسية والحزب مستمر في شكل أسبوعي.
إقرأ أيضاً: الهرب من الواقع… إلى البرلمان الأوروبيّ!
أمّا تحفّظ الممانعين على بيان الدوحة فيعود، حسب مصدر سياسي لبناني بارز اطّلع على جانب من مناقشات الخماسية، إلى أنّ رفض خيار فرنجية بات هو الراجح داخل “الخماسية”، على الرغم من تكرار الجانب المصري ملاحظته بأنّ الحزب “لن يتراجع” عن دعم ترشيح رئيس “المردة”. والعودة إلى مراجعة نصّ البيان تفيد بأنّه استعار تعابير حول مواصفات الرئيس وردت في بيان وزارة الخارجية الأميركية في الأول من أيار الماضي، لمناسبة مرور ستة أشهر على الشغور الرئاسي، الذي رافقته ضغوط من أجل انعقاد البرلمان في سرعة لانتخاب الرئيس. وإنّ تبنّي الدول الخمس مواقف أميركية، ولو جزئياً، هو ما يستفزّ عتاة الممانعة.
لم ترتقِ الدول الخمس من رفض فرنجية إلى التفاهم على اسم بديل، وهو ما يفسّر إمكان تأجيل اجتماعها مجدّداً إلى آخر الصيف أو مطلع الخريف. وفي الانتظار لا بأس بالتلهّي بمقولة أنّ على اللبنانيين أن ينتخبوا رئيساً بقرار داخلي ليس متوفّراً.